الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنْ هَؤُلَاءِ اَلْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ اَلْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ مَنْ قَوْمِكَ، يَا مُحَمَّدُ "مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ "، يَقُولُ: مَنْ يَسْتَمِعُ اَلْقُرْآنَ مِنْكَ، وَيَسْتَمِعُ مَا تَدْعُوهُ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ رَبِّكَ، وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَلَا يَفْقَهُ مَا تَقُولُ وَلَا يُوعِيهِ قَلْبَهُ، وَلَا يَتَدَبَّرُهُ، وَلَا يُصْغِي لَهُ سَمْعَهُ، لِيَتَفَقَّهَهُ فَيَفْهَمَ حُجَجَ اَللَّهِ عَلَيْهِ فِي تَنْزِيلِهِ اَلَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْكَ، إِنَّمَا يَسْمَعُ صَوْتَكَ وَقِرَاءَتَكَ وَكَلَامَكَ، وَلَا يَعْقِلُ عَنْكَ مَا تَقُولُ، لِأَنَّ اَللَّهَ قَدْ جَعَلَ عَلَى قَلْبِِه" أَكِنَّةً ". وَهِيَ جُمَعُ "كَنَّانٍ "، وَهُوَ اَلْغِطَاءُ، مَثَّلَ: " سِنَّانٍ "، "وَأَسِنَّةٍ ". يُقَالُ مِنْهُ: " أَكْنَنْتُ اَلشَّيْءَ فِي نَفْسِي "، بِالْأَلِفِ، " وَكَنَّنْتُ اَلشَّيْءَ "، إِذَا غَطَّيْتَهْ، وَمِنْ ذَلِكَ: بَيْضٌ مَكْنُونٌ، [سُورَةُ اَلصَّافَّاتِ: 49]، وَهُوَ اَلْغِطَاءُ، وَمِنْهُ قَوْلُ اَلشَّاعِرِ: تَحْتَ عَيْنٍ كِنَانُنَا *** ظِلُّ بُرْدٍ مُرَحَّلُ يَعْنِي: غِطَاؤُهُمُ اَلَّذِي يَكُنُّهُمْ. " وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا "، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَجَعَلَ فِي آذَانِهِمْ ثِقَلًا وَصَمَمًا عَنْ فَهْمِ مَا تَتْلُو عَلَيْهِمْ، وَالْإِصْغَاءِ لِمَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. وَالْعَرَبُ تَفْتَحُ "اَلْوَاو" مِنْ "اَلْوَقْر" فِي اَلْأُذُنِ، وَهُوَ اَلثِّقْلُ فِيهَا وَتَكْسِرُهَا فِي اَلْحَمْلِ فَتَقُولُ: "هُوَ وِقْرُ اَلدَّابَّةِ ". وَيُقَالُ مِنَ اَلْحَمْلِ: " أَوْقَرْتُ اَلدَّابَّةَ فَهِيَ مُوقَرَةٌ "وَمِنَ اَلسَّمْعِ: " وَقَرْتُ سَمْعَهُ فَهُوَ مَوْقُورٌ "، وَمِنْهُ قَوْلُ اَلشَّاعِرِ: وَلِي هَامَةٌ قَدْ وَقَّرَ اَلضَّرْبُ سَمْعَهَا *** وَقَدْ ذُكِرَ سَمَاعًا مِنْهُمْ: "وُقِرَتْ أُذُنُهُ "، إِذَا ثَقُلَت" فَهِيَ مَوْقُورَةٌ "" وَأَوْقَرَتِ اَلنَّخْلَةُ، فَهِيَ مُوقِر" كَمَا قِيلَ: "اِمْرَأَةٌ طَامِثٌ، وَحَائِضٌ "، لِأَنَّهُ لَا حَظَّ فِيهِ لِلْمُذَكَّرِ. فَإِذَا أُرِيدَ أَنَّ اَللَّهَ أَوْقَرَهَا، قِيل" مُوقَرَةٌ ". وَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: "وَجَعَلَنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ "، بِمَعْنَى: أَنْ لَا يَفْقَهُوهُ، كَمَا قَالَ: يُبَيِّنُ اَللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [سُورَةُ اَلنِّسَاءِ: 176]، بِمَعْنَى: أَنْ لَا تَضِلُّوا، لِأَن" اَلْكَنُّ " إِنَّمَا جُعِلَ عَلَى اَلْقَلْبِ، لِئَلَّا يَفْقَهَهُ، لَا لِيَفْقَهَهُ. وَبِنَحْوِ اَلَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} "، قَالَ: يَسْمَعُونَهُ بِآذَانِهِمْ وَلَا يَعُونَ مِنْهُ شَيْئًا، كَمِثْلِ اَلْبَهِيمَةِ اَلَّتِي تَسْمَعُ اَلنِّدَاءَ، وَلَا تَدْرِي مَا يُقَالُ لَهَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ: " {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} "، أَمَّا "أَكِنَّةً "، فَالْغِطَاءُ أَكَنَّ قُلُوبَهُمْ، لَا يَفْقَهُونَ اَلْحَق" وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا "، قَالَ: صَمَمٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اَللَّهِ: " {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} "، قَالَ: قُرَيْشٌ. حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا حُذَيْفَةُ قَالَ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنْ يَرَ هَؤُلَاءِ اَلْعَادِلُونَ بِرَبِّهِمُ اَلْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، اَلَّذِينَ جُعِلَتْ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوا عَنْكَ مَا يَسْمَعُونَ مِنْكَ "كُلَّ آيَةٍ "، يَقُولُ: كُلُّ حُجَّةٍ وَعَلَامَةٍ تَدُلُّ أَهْلَ اَلْحِجَا وَالْفَهْمِ عَلَى تَوْحِيدِ اَللَّهِ وَصِدْقِ قَوْلِكَ وَحَقِيقَةِ نُبُوَّتِك" لَا يُؤْمِنُوا بِهَا "، يَقُولُ: لَا يُصَدِّقُونَ بِهَا، وَلَا يُقِرُّونَ بِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ دَالَّةٌ " {حَتَّى إِذَا جَاؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ} "، يَقُولُ: حَتَّى إِذَا صَارُوا إِلَيْكَ بَعْدَ مُعَايَنَتِهِمُ اَلْآيَاتِ اَلدَّالَّةَ عَلَى حَقِيقَةِ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ "يُجَادِلُونَكَ "، يَقُولُ: يُخَاصِمُونَك" يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا "، يُعْنَى بِذَلِكَ: اَلَّذِينَ جَحَدُوا آيَاتِ اَللَّهِ وَأَنْكَرُوا حَقِيقَتَهَا، يَقُولُونَ لِنَبِيِّ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَمِعُوا حُجَجَ اَللَّهِ اَلَّتِي اِحْتَجَّ بِهَا عَلَيْهِمْ، وَبَيَانُهُ اَلَّذِي بَيَّنَهُ لَهُمْ " {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ} "، أَيْ: مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ. وَ "اَلْأَسَاطِير" جَمْعُ "إسْطَارة" وَ" أُسْطُورَةٍ "مِثْل" أُفْكُوهَةٍ "وَ" أُضْحُوكَة" وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اَلْوَاحِدُ "أَسْطَارًا" مِثْلَ "أَبْيَاتٍ "، وَ" أَبَابِيتَ "، وَ" أَقْوَالٍ وَأَقَاوِيلَ "، مِنْ قَوْلِ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ، [سُورَةُ اَلطُّورِ: 2]. مِنْ: " سَطَرَ يَسْطُرُ سَطْرًا ". فَإِذْ كَانَ مِنْ هَذَا: فَإِنَّ تَأْوِيلَهُ: مَا هَذَا إِلَّا مَا كَتَبَهُ اَلْأَوَّلُونَ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَأَوَّلُونَهُ بِهَذَا اَلتَّأْوِيلِ، وَيَقُولُونَ: مَعْنَاهُ: إِنْ هَذَا إِلَّا أَحَادِيثُ اَلْأَوَّلِينَ. حَدَّثَنِي بِذَلِكَ اَلْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ، أَمَّا " أَسَاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ "، فَأَسَاجِيعُ اَلْأَوَّلِينَ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ اَلْعِلْمِ وَهُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ اَلْمُثَنَّى بِكَلَامِ اَلْعَرَبِ يَقُولُ: "الْإِسْطَارَة" لُغَةٌ، وَمَجَازُهَا مَجَازُ اَلتُّرَّهَاتِ. وَكَانَ اَلْأَخْفَشُ يَقُولُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: وَاحِدُهُ "أُسْطُورَةٌ ". وَقَالَ بَعْضُهُمْ: " إِسْطَارَةٌ ". قَالَ: وَلَا أَرَاهُ إِلَّا مِنَ اَلْجَمْعِ اَلَّذِي لَيْسَ لَهُ وَاحِدٌ، نَحْوَ "الْعَبَادِيد" وَ" اَلْمَذَاكِيرُ "، وَ" اَلْأَبَابِيلُ ". قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَاحِدُ "اَلْأَبَابِيلِ "، " إبِّيلٌ "، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "إبَّوْل" مِثْلَ "عِجَّوْلٍ "، وَلَمْ أَجِدِ اَلْعَرَبَ تَعْرِفُ لَهُ وَاحِدًا، وَإِنَّمَا هُوَ مِثْل" عَبَادِيدَ "لَا وَاحِدَ لَهَا. وَأَمَّا" اَلشَّمَاطِيطُ "، فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ وَاحِدَهُ "شِمْطَاطٌ ". قَالَ: وَكُلُّ هَذِهِ لَهَا وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ وَلَمْ يُتَكَلَّمْ بِهِ، لِأَنَّ هَذَا اَلْمِثَالَ لَا يَكُونُ إِلَّا جَمِيعًا. قَالَ: وَسَمِعَتُ اَلْعَرَبَ اَلْفُصَحَاءَ تَقُولُ: " أَرْسَلَ خَيْلَهُ أَبَابِيلَ "، تُرِيدُ جَمَاعَاتٍ، فَلَا تَتَكَلَّمُ بِهَا بِوَاحِدَةٍ. وَكَانَتْ مُجَادَلَتُهُمْ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اَلَّتِي ذَكَرَهَا اَللَّهُ فِي هَذِهِ اَلْآيَةِ، فِيمَا ذُكِرَ، مَا:- حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ} "اَلْآيَةَ، قَالَ: هُمُ اَلْمُشْرِكُونَ، يُجَادِلُونَ اَلْمُسْلِمِينَ فِي اَلذَّبِيحَةِ، يَقُولُونَ: " أَمَّا مَا ذَبَحْتُمْ وَقَتَلْتُمْ فَتَأْكُلُونَ، وَأَمَّا مَا قَتَلَ اَللَّهُ فَلَا تَأْكُلُونَ! وَأَنْتُمْ تَتَّبِعُونَ أَمْرَ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ " !
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اِخْتَلَفَ أَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: "وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ". فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: هَؤُلَاءِ اَلْمُشْرِكُونَ اَلْمُكَذِّبُونَ بِآيَاتِ اَللَّهِ، يَنْهَوْنَ اَلنَّاسَ عَنِ اِتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَبُولِ مِنْهُ " وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ "، يَتَبَاعَدُونَ عَنْهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ وَهَانِئُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ اِبْنِ اَلْحَنَفِيَّةِ: " {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} "، قَالَ: يَتَخَلَّفُونَ عَنِ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُجِيبُونَهُ، وَيَنْهَوْنَ اَلنَّاسَ عَنْهُ. حَدَّثَنَا اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} "، يَعْنِي: يَنْهَوْنَ اَلنَّاسَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ " وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ "، يَعْنِي: يَتَبَاعَدُونَ عَنْهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ: " {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} "، أَنْ يُتَّبَعَ مُحَمَّدٌ، وَيَتَبَاعَدُونَ هُمْ مِنْهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} "، يَقُولُ: لَا يُلْقُونَهُ، وَلَا يَدَعُونَ أَحَدًا يَأْتِيهِ. حُدِّثْتُ عَنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ اَلْفَرَجِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} "، يَقُولُ: عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} "، جَمَعُوا اَلنَّهْيَ وَالنَّأْيَ. وَ" اَلنَّأْيُ "، اَلتَّبَاعُدُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ مَعْنَاهُ: " {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} " عَنِ اَلْقُرْآنِ، أَنْ يُسْمَعَ لَهُ وَيُعْمَلَ بِمَا فِيهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: " {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} "، قَالَ: يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْقُرْآنِ، وَعَنِ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} "، وَيَتَبَاعَدُونَ عَنْهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: " {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} "، قَالَ: قُرَيْشٌ، عَنِ اَلذَّكَرِ " {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} "، يَقُولُ: يَتَبَاعَدُونَ. حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} "، قُرَيْشٌ، عَنِ اَلذَّكَرِ. " يَنْأَوْنَ عَنْهُ "، يَتَبَاعَدُونَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَلْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: " {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} "، قَالَ: يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْقُرْآنِ، وَعَنِ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَتَبَاعَدُونَ عَنْهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا اِبْنُ وَهَبٍ قَالَ قَالَ اِبْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {يَنْأَوْنَ عَنْهُ} "، قَالَ: " {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} "، يُبَاعِدُونَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْ أَذَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} "، يَتَبَاعَدُونَ عَنْ دِينِهِ وَاتِّبَاعِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَقَبِيصَةُ وَحَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَمَّنْ سَمِعَ اِبْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، كَانَ يَنْهَى عَنْ مُحَمَّدٍ أَنْ يُؤْذَى، وَيَنْأَى عَمَّا جَاءَ بِهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ. حَدَّثَنَا اِبْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ اِبْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: " {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} "، قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، يَنْهَى عَنْهُ أَنْ يُؤْذَى، وَيَنْأَى عَمَّا جَاءَ بِهِ. حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا اَلثَّوْرِيُّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَمَّنْ سَمِعَ اِبْنَ عَبَّاسٍ: " {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} "، قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، كَانَ يَنْهَى اَلْمُشْرِكِينَ أَنْ يُؤْذُوا مُحَمَّدًا، وَيَنْأَى عَمَّا جَاءَ بِهِ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبَدَةُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ اَلْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ قَالَ: كَانَ أَبُو طَالِبٍ يَنْهَى عَنِ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يُصَدِّقُهُ. حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ اَلْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ فِي قَوْلِهِ: " {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} "، قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ قَالَ اِبْنُ وَكِيعٍ، قَالَ اِبْنُ بِشْرٍ: كَانَ أَبُو طَالِبٍ يَنْهَى عَنِ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُؤْذَى وَلَا يُصَدِّقُ بِهِ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ اَلْأَسَدِيِّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ اِبْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي قَوْلِ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} "، نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، كَانَ يَنْهَى عَنْ أَذَى مُحَمَّدٍ، وَيَنْأَى عَمَّا جَاءَ بِهِ أَنْ يَتَّبِعَهُ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ اَلْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ فِي قَوْلِهِ: " {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} "، قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ. حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اَللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ اَلْعَزِيزِ بْنِ سِيَاهٍ، عَنْ حَبِيبٍ قَالَ: ذَاكَ أَبُو طَالِبٍ، فِي قَوْلِهِ: " {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} ". حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا اِبْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ قَالَ عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ فِي قَوْلِ اَللَّهِ: " {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} "، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى اَلنَّاسَ عَنْ إِيذَاءِ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَنْأَى عَمَّا جَاءَ بِهِ مِنَ اَلْهُدَى. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ اَلْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ اَلْآيَةِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: تَأْوِيلُهُ: " {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} "، عَنِ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ اَلنَّاسِ، وَيَنْأَوْنَ عَنِ اِتِّبَاعِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ اَلْآيَاتِ قَبْلَهَا جَرَتْ بِذِكْرِ جَمَاعَةِ اَلْمُشْرِكِينَ اَلْعَادِلِينَ بِهِ، وَالْخَبَرِ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ تَنْزِيلِ اَللَّهِ وَوَحْيِهِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: " {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} "، خَبَرًا عَنْهُمْ، إِذْ لَمْ يَأْتِنَا مَا يَدُلُّ عَلَى اِنْصِرَافِ اَلْخَبَرِ عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ. بَلْ مَا قَبْلَ هَذِهِ اَلْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا، يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا، مِنْ أَنَّ ذَلِكَ خَبَرٌ عَنْ جَمَاعَةِ مُشْرِكِي قَوْمِ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دُونَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ خَاصٍّ مِنْهُمْ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيلُ اَلْآيَةِ: وَإِنْ يَرَ هَؤُلَاءِ اَلْمُشْرِكُونَ، يَا مُحَمَّدُ، كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا، حَتَّى إِذَا جَاؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُونَ: "إِنَّ هَذَا اَلَّذِي جِئْتَنَا بِهِ إِلَّا أَحَادِيثَ اَلْأَوَّلِينَ وَأَخْبَارَهُم" ! وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنِ اِسْتِمَاعِ التَّنْزِيلِ، وَيَنْأَوْنَ عَنْكَ فَيَبْعُدُونَ مِنْكَ وَمِنَ اِتِّبَاعِكَ " {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} "، يَقُولُ: وَمَا يُهْلِكُونَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اَللَّهِ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ تَنْزِيلِهِ، وَكُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ- إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لَا غَيْرَهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَكْسِبُونَهَا بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ، سُخْطَ اَللَّهِ وَأَلِيمَ عِقَابِهِ، وَمَا لَا قِبَلَ لَهَا بِهِ " وَمَا يَشْعُرُونَ "، يَقُولُ: وَمَا يَدْرُونَ مَا هُمْ مُكَسَّبُوهَا مِنَ اَلْهَلَاكِ وَالْعَطَبِ بِفِعْلِهِمْ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلٍّ مِنْ بَعُدَ عَنْ شَيْءٍ: "قَدْ نَأَى عَنْهُ، فَهُوَ يَنْأَى نَأْيًا ". وَمَسْمُوعٌ مِنْهُمْ: " نَأَيْتُكَ "، بِمَعْنَى: "نَأَيْتُ عَنْكَ ". وَأَمَّا إِذَا أَرَادُوا: أَبْعَدْتُكَ عَنِّي، قَالُوا: " أَنْأَيْتُكَ ". وَمِنْ "نَأَيْتُك" بِمَعْنَى: نَأَيْتُ عَنْكَ، قَوْلُ اَلْحُطَيْئَةِ: نَأَتْكَ أُمَامَةُ إِلَّا سُؤَالَا *** وَأَبْصَرْتَ مِنْهَا بِطَيْفٍ خَيَالَا
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى اَلنَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلَوْ تَرَى "، يَا مُحَمَّدُ، هَؤُلَاءِ اَلْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمُ اَلْأَصْنَامَ وَالْأَوْثَانَ، اَلْجَاحِدِينَ نُبُوَّتَكَ، اَلَّذِينَ وَصَفْتُ لَكَ صِفَتَهُم" إِذْ وُقِفُوا "، يَقُولُ: إِذْ حُبِسُوا "عَلَى اَلنَّارِ "، يَعْنِي: فِي اَلنَّارِ- فَوُضِعَت" عَلَى "مَوْضِع" فِي " كَمَا قَالَ: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو اَلشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [سُورَةُ اَلْبَقَرَةِ: 102]، بِمَعْنَى فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ. وَقِيلَ: " {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا} "، وَمَعْنَاهُ: إِذَا وُقِفُوا لِمَا وَصَفْنَا قَبْلُ فِيمَا مَضَى: أَنَّ اَلْعَرَبَ قَدْ تَضَعُ "إِذ" مَكَانَ "إِذَا "، وَ" إِذَا" مَكَانَ "إِذْ "، وَإِنْ كَانَ حَظ" إِذْ "أَنْ تُصَاحِبَ مِنَ اَلْأَخْبَارِ مَا قَدْ وُجِدَ فَقُضِيَ، وَحَظ" إِذَا " أَنْ تُصَاحِبَ مِنَ اَلْأَخْبَارِ مَا لَمْ يُوجَدْ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ كَمَا قَالَ اَلرَّاجِزُ، وَهُوَ أَبُو اَلنَّجْمِ: مَدَّ لَنَا فِي عُمْرِهِ رَبٌّ طَهَا *** ثُمَّ جَزَاهُ اللَّهُ عَنَّا إِذْ جَزَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي اَلْعَلَالِيِّ اَلْعُلَى فَقَالَ: "ثُمَّ جَزَاهُ اَللَّهُ عَنَّا إِذْ جَزَى" فَوَضَعَ، "إِذ" مَكَانَ " إِذَا ". وَقِيلَ: "وَقَفُوا "، وَلَمْ يَقُلْ: " أُوقِفُوا "، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ اَلْفَصِيحُ مِنْ كَلَامِ اَلْعَرَبِ. يُقَالُ: "وَقَفْتُ اَلدَّابَّةَ وَغَيْرَهَا "، بِغَيْرِ أَلِفٍ، إِذَا حَبَسْتَهَا. وَكَذَلِكَ: " وَقَفْتُ اَلْأَرْضَ "، إِذَا جَعَلْتَهَا صَدَقَةً حَبِيسًا، بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَقَدْ:- حَدَّثَنِي اَلْحَارِثُ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي اَلْيَزِيدِيُّ وَالْأَصْمَعِيُّ، كِلَاهُمَا، عَنْ أَبِي عَمْرٍو قَالَ: مَا سَمِعَتُ أَحَدًا مِنَ اَلْعَرَبِ يَقُولُ: "أَوْقَفَتُ اَلشَّيْء" بِالْأَلِفِ. قَالَ: إِلَّا أَنِّي لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا بِمَكَانٍ فَقُلْتُ: " مَا أَوْقَفَكَ هَاهُنَا؟ "، بِالْأَلِفِ، لَرَأَيْتُهُ حَسَنًا. " فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ "، يَقُولُ: فَقَالَ هَؤُلَاءِ اَلْمُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ، إِذْ حُبِسُوا فِي اَلنَّارِ: " {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} "، إِلَى اَلدُّنْيَا حَتَّى نَتُوبَ وَنُرَاجِعَ طَاعَةَ اَللَّهِ " {وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} "، يَقُولُ: وَلَا نُكَذِّبَ بِحُجَجِ رَبِّنَا وَلَا نَجْحَدَهَا " {وَنَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ} "، يَقُولُ: وَنَكُونَ مِنَ اَلْمُصَدِّقِينَ بِاَللَّهِ وَحُجَجِهِ وَرُسُلِهِ، مُتَّبِعِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ اَلْحِجَازِ وَالْمَدِينَةِ وَالْعِرَاقِيِّينَ: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ}، بِمَعْنَى: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ، وَلَسْنَا نَكْذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا، وَلَكُنَّا نَكُونُ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قَرَأَةِ اَلْكُوفَةِ: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ}، بِمَعْنَى: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ، وَأَنْ لَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا، وَنَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ. وتأوَّلُوا فِي ذَلِكَ شَيْئًا:- حَدِّثْنِيهِ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ قَالَ: فِي حَرْفِ اِبْنِ مَسْعُودٍ: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ فَلَا نُكَذِّبَ} بِالْفَاءِ. وَذُكِرَ عَنْ بَعْضِ قَرَأَةِ أَهْلِ اَلشَّامِ، أَنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ} بِالرَّفْعِ (وَنَكُونَ) بِالنَّصْبِ، كَأَنَّهُ وَجَّهَ تَأْوِيلَهُ إِلَى أَنَّهُمْ تَمَنَّوُا اَلرَّدَّ، وَأَنْ يَكُونُوا مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ، وَأَخْبَرُوا أَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ إِنَّ رُدُّوا إِلَى اَلدُّنْيَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ اَلْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ مَنْصُوبًا وَمَرْفُوعًا. فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِّ اَلْبَصْرَةِ: " {وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ} "، نَصْبٌ، لِأَنَّهُ جَوَابٌ لِلتَّمَنِّي، وَمَا بَعْدَ "اَلْوَاو" كَمَا بَعْدَ "اَلْفَاءِ ". قَالَ: وَإِنْ شِئْتَ رَفَعْتَ وَجَعَلْتَهُ عَلَى غَيْرِ اَلتَّمَنِّي، كَأَنَّهُمْ قَالُوا: وَلَا نُكَذِّبُ وَاَللَّهِ بِآيَاتِ رَبِّنَا، وَنَكُونُ وَاَللَّهِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ. هَذَا إِذَا كَانَ عَلَى ذَا اَلْوَجْهِ، كَانَ مُنْقَطِعًا مِنَ اَلْأَوَّلِ. قَالَ: وَالرَّفْعُ وَجْهُ اَلْكَلَامِ، لِأَنَّهُ إِذَا نَصَبَ جَعَلَهَا" وَاوَ "عَطْفٍ. فَإِذَا جَعَلَهَا" وَاوَ " عَطْفٍ، فَكَأَنَّهُمْ قَدْ تَمَنَّوْا أَنْ لَا يُكَذِّبُوا، وَأَنْ يَكُونُوا مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، لَا يَكُونُ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَمَنَّوْا هَذَا، إِنَّمَا تَمَنَّوْا اَلرَّدَّ، وَأَخْبَرُوا أَنَّهُمْ لَا يَكْذِبُونَ، وَيَكُونُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِّ اَلْكُوفَةِ يَقُولُ: لَوْ نَصَبَ "نَكْذِب" وَ" نَكُونُ "عَلَى اَلْجَوَابِ بِالْوَاوِ، لَكَانَ صَوَابًا. قَالَ: وَالْعَرَبُ تُجِيبُ بِـ" اَلْوَاو "، وَ" ثُمَّ "، كَمَا تُجِيبُ بِالْفَاءِ. يَقُولُونَ: "لَيْتَ لِي مَالًا فَأُعْطِيَكَ "، " وَلَيْتَ لِي مَالًا وَأُعْطِيَكَ "، "وَثُمَّ أُعْطِيَكَ ". قَالَ: وَقَدْ تَكُونُ نَصْبًا عَلَى اَلصَّرْفِ، كَقَوْلِكَ: " لَا يَسَعُنِي شَيْءٌ وَيَعْجِزَ عَنْك. وَقَالَ آخَرُ مِنْهُمْ: لَا أُحِبُّ اَلنَّصْبَ فِي هَذَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَمَنٍّ مِنْهُمْ، إِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ، أَخْبَرُوا بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ. أَلَّا تَرَى أَنَّ اَللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ كَذَّبَهُمْ فَقَالَ: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}؟ وَإِنَّمَا يَكُونُ اَلتَّكْذِيبُ لِلْخَبَرِ لَا لِلتَّمَنِّي. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ اَلْجَوَابُ "بِالْوَاوِ "، وَبِحَرْفٍ غَيْر" اَلْفَاءِ ". وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا "اَلْوَاو" مَوْضِعُ حَالٍ، لَا يَسَعُنِي شَيْءٌ وَيَضِيقُ عَنْكَ "، أَيْ: وَهُوَ يَضِيقُ عَنْكَ. قَالَ: وَكَذَلِكَ اَلصَّرْفُ فِي جَمِيعِ اَلْعَرَبِيَّةِ. قَالَ: وَأَمَّا "اَلْفَاء" فَجَوَابُ جَزَاءِ: "مَا قُمْتَ فَنَأْتِيَكَ "، أَيْ: لَوْ قُمْتَ لَأَتَيْنَاكَ. قَالَ: فَهَذَا حُكْمُ اَلصَّرْفِ وَ" اَلْفَاءِ ". قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَلَا نُكَذِّبَ "، وَ" نَكُونَ "فَإِنَّمَا جَازَ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: " يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ "، فِي غَيْرِ اَلْحَالِ اَلَّتِي وَقَفْنَا فِيهَا عَلَى اَلنَّارِ. فَكَانَ وَقْفُهُمْ فِي تِلْكَ، فَتَمَنَّوْا أَنْ لَا يَكُونُوا وُقِفُوا فِي تِلْكَ اَلْحَالِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَأَنَّ مَعْنًى صَاحِبِ هَذِهِ اَلْمَقَالَةِ فِي قَوْلِهِ هَذَا: وَلَوْ تَرَى إِذْ وَقَفُوا عَلَى اَلنَّارِ، فَقَالُوا: قَدْ وَقَفْنَا عَلَيْهَا مُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ رَبِّنَا كَفَّارًا، فَيَا لَيْتَنَا نُرَدُّ إِلَيْهَا فنُوقَفُ عَلَيْهَا غَيْرَ مُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَلَا كُفَّارًا. وَهَذَا تَأْوِيلٌ يَدْفَعُهُ ظَاهِرُ التَّنْزِيلِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، فَأَخْبَرَ اَللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ فِي قَيْلِهِمْ ذَلِكَ كَذَبَةٌ، وَالتَّكْذِيبُ لَا يَقَعُ فِي اَلتَّمَنِّي. وَلَكِنْ صَاحِبُ هَذِهِ اَلْمَقَالَةِ أَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَتَدَبَّرِ اَلتَّأْوِيلَ، وَلَزِمَ سَنَنَ اَلْعَرَبِيَّةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْقِرَاءَةُ اَلَّتِي لَا أَخْتَارُ غَيْرَهَا فِي ذَلِكَ: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ} بِالرَّفْعِ فِي كِلَيْهِمَا، بِمَعْنَى: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ، وَلَسْنَا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا إِنْ رَدَدْنَا، وَلَكِنَّا نَكُونُ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَى وَجْهِ اَلْخَبَرِ مِنْهُمْ عَمَّا يَفْعَلُونَ إِنْ هُمْ رُدُّوا إِلَى اَلدُّنْيَا، لَا عَلَى اَلتَّمَنِّي مِنْهُمْ أَنْ لَا يُكَذِّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَيَكُونُوا مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ. لِأَنَّ اَللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ، وَأَنَّهُمْ كَذَبَةٌ فِي قِيلِهِمْ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ قِيلِهِمْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ اَلتَّمَنِّي، لَاسْتَحَالَ تَكْذِيبُهُمْ فِيهِ، لِأَنَّ اَلتَّمَنِّيَ لَا يُكَذَّبُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ اَلتَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ فِي اَلْأَخْبَارِ. وَأَمَّا اَلنَّصْبُ فِي ذَلِكَ، فَإِنِّي أَظُنُّ بِقَارِئِهِ أَنَّهُ تَوَخَّى تَأْوِيلَ قِرَاءَةِ عَبْدِ اَللَّهِ اَلَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْهُ، وَذَلِكَ قِرَاءَتُهُ ذَلِكَ: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ فَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ}، عَلَى وَجْهِ جَوَابِ اَلتَّمَنِّي بِالْفَاءِ. وَهُوَ إِذَا قُرِئَ بِالْفَاءِ كَذَلِكَ، لَا شَكَّ فِي صِحَّةِ إِعْرَابِهِ. وَمَعْنَاهُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ تَأْوِيلَهُ إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ: لَوْ أَنَّا رَدَدْنَا إِلَى اَلدُّنْيَا مَا كَذَّبْنَا بِآيَاتِ رَبِّنَا، وَلَكِنَّا مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ. فَإِنْ يَكُنِ اَلَّذِي حَكَى مَنْ حَكَى عَنِ اَلْعَرَبِ مِنَ اَلسَّمَاعِ مِنْهُمُ اَلْجَوَابَ بِالْوَاوِ، وَ" ثُمَّ " كَهَيْئَةِ اَلْجَوَابِ بِالْفَاءِ، صَحِيحًا، فَلَا شَكَّ فِي صِحَّةِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ نَصْبًا عَلَى جَوَابِ اَلتَّمَنِّي بِالْوَاوِ، عَلَى تَأْوِيلِ قِرَاءَةِ عَبْدِ اَللَّهِ ذَلِكَ بِالْفَاءِ. وَإِلَّا فَإِنَّ اَلْقِرَاءَةَ بِذَلِكَ بَعِيدَةُ اَلْمَعْنَى مِنْ تَأْوِيلِ التَّنْزِيلِ. وَلَسْتُ أَعْلَمُ سَمَاعَ ذَلِكَ مِنَ اَلْعَرَبِ صَحِيحًا، بَلِ اَلْمَعْرُوفُ مِنْ كَلَامِهَا: اَلْجَوَابُ بِالْفَاءِ، وَالصَّرْفُ بِالْوَاوِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا بِهَؤُلَاءِ اَلْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمْ، اَلْجَاحِدِينَ نُبُوَّتَكَ، يَا مُحَمَّدُ، فِي قَيْلِهِمْ إِذَا وَقَفُوا عَلَى اَلنَّارِ: " {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ} " اَلْأَسَى وَالنَّدَمُ عَلَى تَرْكِ اَلْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالتَّصْدِيقِ بِكَ، لَكِنْ بِهِمُ اَلْإِشْفَاقُ مِمَّا هُوَ نَازِلٌ بِهِمْ مِنْ عِقَابِ اَللَّهِ وَأَلِيمِ عَذَابِهِ، عَلَى مَعَاصِيهِمُ اَلَّتِي كَانُوا يُخْفُونَهَا عَنْ أَعْيُنِ اَلنَّاسِ وَيَسْتُرُونَهَا مِنْهُمْ، فَأَبْدَاهَا اَللَّهُ مِنْهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَأَظْهَرُهَا عَلَى رُؤُوسِ اَلْأَشْهَادِ، فَفَضَحَهُمْ بِهَا، ثُمَّ جَازَاهُمْ بِهَا جَزَاءَهُمْ. يَقُولُ: بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ اَلسَّيِّئَةِ اَلَّتِي كَانُوا يُخْفُونَهَا "مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ فِي اَلدُّنْيَا، فَظَهَرَت" وَلَوْ رُدُّوا "، يَقُولُ: وَلَوْ رُدُّوا إِلَى اَلدُّنْيَا فَأُمْهِلُوا " {لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} "، يَقُولُ: لَرَجَعُوا إِلَى مِثْلِ اَلْعَمَلِ اَلَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَهُ فِي اَلدُّنْيَا قَبْلَ ذَلِكَ، مِنْ جُحُودِ آيَاتِ اَللَّهِ، وَالْكَفْرِ بِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا يُسْخِطُ عَلَيْهِمْ رَبَّهُمْ "إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ "، فِي قِيلِهِمْ: " لَوْ رَدَدْنَا لَمْ نُكَذِّبْ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَكُنَّا مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ "، لِأَنَّهُمْ قَالُوهُ حِينَ قَالُوهُ خَشْيَةَ اَلْعَذَابِ، لَا إِيمَانًا بِاَللَّهِ. وَبِاَلَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ: " {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} "، يَقُولُ: بَدَتْ لَهُمْ أَعْمَالُهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ، اَلَّتِي أَخْفَوْهَا فِي اَلدُّنْيَا. حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: " {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} "، قَالَ: مِنْ أَعْمَالِهِمْ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} "، يَقُولُ: وَلَوْ وَصَلَ اَللَّهُ لَهُمْ دُنْيَا كَدُنْيَاهُمْ، لَعَادُوا إِلَى أَعْمَالِهِمْ أَعْمَالِ اَلسُّوءِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا اَلدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ اَلْمُشْرِكِينَ، اَلْعَادِلِينَ بِهِ اَلْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ، اَلَّذِينَ اِبْتَدَأَ هَذِهِ اَلسُّورَةَ بِالْخَبَرِ عَنْهُمْ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا اَلدُّنْيَا} "، يُخْبِرُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ أَنَّ اَللَّهَ يُحْيِي خَلْقَهُ بَعْدَ أَنْ يُمِيتَهُمْ، وَيَقُولُونَ: " لَا حَيَاةَ بَعْدَ اَلْمَمَاتِ، وَلَا بَعْثَ وَلَا نُشُورَ بَعْدَ اَلْفَنَاءِ ". فَهُمْ بِجُحُودِهِمْ ذَلِكَ، وَإِنْكَارِهِمْ ثَوَابَ اَللَّهِ وَعِقَابَهُ فِي اَلدَّارِ اَلْآخِرَةِ، لَا يُبَالُونَ مَا أَتَوْا وَمَا رَكِبُوا مِنْ إِثْمٍ وَمَعْصِيَةٍ، لِأَنَّهُمْ لَا يَرْجُونَ ثَوَابًا عَلَى إِيمَانٍ بِاَللَّهِ وَتَصْدِيقٍ بِرَسُولِهِ وَعَمَلٍ صَالِحٍ بَعْدَ مَوْتٍ، وَلَا يَخَافُونَ عِقَابًا عَلَى كَفْرِهِمْ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَسَيِّئٍ مِنْ عَمَلٍ يَعْمَلُونَهُ. وَكَانَ اِبْنُ زَيْدٍ يَقُولُ: هَذَا خَبَرٌ مِنَ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ اَلْكَفَرَةِ اَلَّذِينَ وَقَفُوا عَلَى اَلنَّارِ: أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا إِلَى اَلدُّنْيَا لَقَالُوا: " {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا اَلدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} ". حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا اِبْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ اِبْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} "، وَقَالُوا حِينَ يَرُدُّونَ: " {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا اَلدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا اَلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: "لَوْ تَرَى "، يَا مُحَمَّدُ، هَؤُلَاءِ اَلْقَائِلِينَ: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا اَلدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِين" إِذْ وُقِفُوا "يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، أَيْ: حُبِسُوا، " عَلَى رَبِّهِمْ "، يَعْنِي عَلَى حُكْمِ اَللَّهِ وَقَضَائِهِ فِيهِمْ " {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} "، يَقُولُ: فَقِيلَ لَهُمْ: أَلَيْسَ هَذَا اَلْبَعْثُ وَالنَّشْرُ بَعْدَ اَلْمَمَاتِ اَلَّذِي كُنْتُمْ تُنْكِرُونَهُ فِي اَلدُّنْيَا، حَقًّا؟ فَأَجَابُوا، فَقَالُوا: بَلَى " وَاَللَّهِ إِنَّهُ لَحَقٌّ " {قَالَ فَذُوقُوا اَلْعَذَابَ} "، يَقُولُ: فَقَالَ اَللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَهُمْ: فَذُوقُوا اَلْعَذَابَ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ فِي اَلدُّنْيَا تُكَذِّبُونَ " {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} "، يَقُولُ: بِتَكْذِيبِكُمْ بِهِ وَجُحُودِكُمُوهُ اَلَّذِي كَانَ مِنْكُمْ فِي اَلدُّنْيَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قَدْ خَسِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اَللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ اَلسَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: " {قَدْ خَسِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اَللَّهِ} "، قَدْ هَلَكَ وَوُكِسَ، فِي بَيْعِهِمُ اَلْإِيمَانَ بِالْكُفْرِ " اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اَللَّهِ "، يَعْنِي: اَلَّذِينَ أَنْكَرُوا اَلْبَعْثَ بَعْدَ اَلْمَمَاتِ، وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ، مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ فِي ذَلِكَ " {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ اَلسَّاعَةُ} "، يَقُولُ: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ اَلسَّاعَةُ اَلَّتِي يَبْعَثُ اَللَّهُ فِيهَا اَلْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ. وَإِنَّمَا أُدْخِلَتِ "اَلْأَلِفُ وَاللَّام" فِي " اَلسَّاعَةِ "، لِأَنَّهَا مَعْرُوفَةُ اَلْمَعْنَى عِنْدَ اَلْمُخَاطَبِينَ بِهَا، وَأَنَّهَا مَقْصُودٌ بِهَا قَصْدُ اَلسَّاعَةِ اَلَّتِي وُصِفَتْ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: " بَغْتَةً "، فَجْأَةً، مِنْ غَيْرِ عِلْمِ مَنْ تَفْجَؤُهُ بِوَقْتِ مُفَاجَأَتِهَا إِيَّاهُ. يُقَالُ مِنْهُ: " بَغَتُّهُ أَبْغَتْهُ بَغْتَةً "، إِذَا أَخَذَتْهُ كَذَلِكَ: " {قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} "، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وُكِسَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اَللَّهِ بِبَيْعِهِمْ مَنَازِلَهُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ بِمَنَازِلَ مَنِ اِشْتَرَوْا مَنَازِلَهُ مِنْ أَهْلِ اَلْجَنَّةِ مِنَ اَلنَّارِ، فَإِذَا جَاءَتْهُمُ اَلسَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا إِذَا عَايَنُوا مَا بَاعُوا وَمَا اِشْتَرَوْا، وَتَبَيَّنُوا خَسَارَةَ صَفْقَةِ بَيْعِهِمُ اَلَّتِي سَلَفَتْ مِنْهُمْ فِي اَلدُّنْيَا، تَنَدُّمًا وَتَلَهُّفًا عَلَى عَظِيمِ اَلْغَبْنِ اَلَّذِي غَبَنُوهُ أَنْفُسَهُمْ، وَجَلِيلِ اَلْخُسْرَانِ اَلَّذِي لَا خُسْرَانَ أَجَلَّ مِنْهُ " {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} "، يَقُولُ: يَا نَدَامَتَنَا عَلَى مَا ضَيَّعْنَا فِيهَا، يَعْنِي: صَفْقَتُهُمْ تِلْكَ. وَ "اَلْهَاءُ وَالْأَلِف" فِي قَوْلِهِ: "فِيهَا "، مِنْ ذِكْر" اَلصَّفْقَةِ "، وَلَكِنِ اِكْتَفَى بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: "قَدْ خَسِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اَللَّه" عَلَيْهَا مِنْ ذِكْرِهَا، إِذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ "اَلْخُسْرَان" لَا يَكُونُ إِلَّا فِي صَفْقَةِ بَيْعٍ قَدْ جَرَتْ. وَإِنَّمَا مَعْنَى اَلْكَلَامِ: قَدْ وُكِسَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اَللَّهِ، بِبَيْعِهِمُ اَلْإِيمَانَ اَلَّذِي يَسْتَوْجِبُونَ بِهِ مِنَ اَللَّهِ رِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ، بِالْكُفْرِ اَلَّذِي يَسْتَوْجِبُونَ بِهِ مِنْهُ سَخَطَهُ وَعُقُوبَتَهُ، وَلَا يَشْعُرُونَ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ اَلْخُسْرَانِ فِي ذَلِكَ، حَتَّى تَقُومَ اَلسَّاعَةُ، فَإِذَا جَاءَتْهُمُ اَلسَّاعَةُ بَغْتَةً فَرَأَوْا مَا لَحِقَهُمْ مِنَ اَلْخُسْرَانِ فِي بَيْعِهِمْ، قَالُوا حِينَئِذٍ، تَنَدُّمًا: " {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} ". وَبِنَحْوِ اَلَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ قَوْلُهُ: " {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} "، أَمَّا " يَا حَسْرَتنَا "، فَنَدَامَتُنَا " {عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} "، فَضَيَّعْنَا مِنْ عَمَلِ اَلْجَنَّةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ اَلْأَسَدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ مِهْرَانَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ اَلْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ «: " {يَا حَسْرَتَنَا} "، قَالَ: " يَرَى أَهْلُ اَلنَّارِ مَنَازِلَهُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ: يَا حَسْرَتنَا ". »
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَّا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَهَؤُلَاءِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اَللَّهِ، " {يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} ". وَقَوْلُهُ: "وَهُم" مَنْ ذَكَرَهُمْ " يَحْمِلُونَ أَوْزَارهمْ "، يَقُولُ: آثَامَهُمْ وَذُنُوبَهُمْ. وَاحِدُهَا "وِزْرٌ "، يُقَالُ مِنْهُ: " وَزَرَ اَلرَّجُلُ يَزِرُ "، إِذَا أَثِمَ، قَالَ اَللَّهُ: " {أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} ". فَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُمْ أُثِّمُوا، قِيلَ: " قَدْ وُزِرَ اَلْقَوْمُ فَهُمْ يُوزَرُونَ، وَهُمْ مَوْزُورُونَ ". قَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ "اَلْوِزْر" اَلثِّقْلُ وَالْحَمْلُ. وَلَسْتُ أَعْرِفُ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي شَاهِدٍ، وَلَا مِنْ رِوَايَةِ ثِقَةٍ عَنِ اَلْعَرَبِ. وَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " عَلَى ظُهُورِهِمْ "، لِأَنَّ اَلْحَمْلَ قَدْ يَكُونُ عَلَى اَلرَّأْسِ وَالْمَنْكِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَبَيَّنَ مَوْضِعَ حَمْلِهِمْ مَا يَحْمِلُونَ مِنْ ذَلِكَ. وَذَكَرَ أَنَّ حَمْلَهُمْ أَوْزَارَهُمْ يَوْمَئِذٍ عَلَى ظُهُورِهِمْ، نَحْوَ اَلَّذِي:- حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْحُكْمُ بْنُ بَشِيرِ بْنِ سَلْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ قَالَ: إِنَّ اَلْمُؤْمِنَ إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ اِسْتَقْبَلَهُ أَحْسَنُ شَيْءٍ صُورَةً وَأَطْيَبُهُ رِيحًا، فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا إِلَّا أَنَّ اَللَّهَ قَدْ طَيَّبَ رِيحَكَ وَحَسَّنَ صُورَتَكَ ! فَيَقُولُ: كَذَلِكَ كُنْتَ فِي اَلدُّنْيَا، أَنَا عَمَلُكَ اَلصَّالِحُ، طَالَمَا رَكِبْتُكَ فِي اَلدُّنْيَا، فَارْكَبْنِي أَنْتَ اَلْيَوْمَ! وَتَلَا {يَوْمَ نَحْشُرُ اَلْمُتَّقِينَ إِلَى اَلرَّحْمَنِ وَفْدًا}، [سُورَةُ مَرْيَمَ: 85]. وَإِنَّ اَلْكَافِرَ يَسْتَقْبِلُهُ أَقْبَحُ شَيْءٍ صُورَةً وَأَنْتَنُهُ رِيحًا، فَيَقُولُ، هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا إِلَّا أَنَّ اَللَّهَ قَدْ قَبَّحَ صُورَتَكَ وَأَنْتَنَ رِيحَكَ ! فَيَقُولُ: كَذَلِكَ كُنْتَ فِي اَلدُّنْيَا، أَنَا عَمَلُكَ اَلسَّيِّئُ، طَالَمَا رَكِبْتَنِي فِي اَلدُّنْيَا، فَأَنَا اَلْيَوْمَ أَرْكَبُكَ وَتَلَا " {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} ". حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ: " {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} "، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ظَالِمٍ يَمُوتُ فَيَدْخُلُ قَبْرَهُ، إِلَّا جَاءَ رَجُلٌ قَبِيحُ اَلْوَجْهِ، أَسْوَدُ اَللَّوْنِ، مُنْتِنُ اَلرِّيحِ، عَلَيْهِ ثِيَابٌ دَنِسَةٌ، حَتَّى يَدْخُلَ مَعَهُ قَبْرَهُ، فَإِذَا رَآهُ قَالَ لَهُ: مَا أَقْبَحَ وَجْهَكَ! قَالَ: كَذَلِكَ كَانَ عَمَلُكَ قَبِيحًا! قَالَ: مَا أَنْتَنَ رِيحَكَ! قَالَ: كَذَلِكَ كَانَ عَمَلُكَ مُنْتِنًا! قَالَ: مَا أَدْنَسَ ثِيَابَكَ! قَالَ فَيَقُولُ: إِنَّ عَمَلَكَ كَانَ دَنِسًا. قَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا عَمَلُكَ! قَالَ: فَيَكُونُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ، فَإِذَا بُعِثَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ قَالَ لَهُ: إِنِّي كُنْتُ أَحْمِلُكَ فِي اَلدُّنْيَا بِاللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ، فَأَنْتَ اَلْيَوْمَ تَحْمِلُنِي. قَالَ: فَيَرْكَبُ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَسُوقُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ اَلنَّارَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: " {يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} ". وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " {أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} "، فَإِنَّهُ يَعْنِي: أَلَّا سَاءَ اَلْوِزْرُ اَلَّذِي يَزِرُونَ- أَيْ: اَلْإِثْمُ اَلَّذِي يَأْثُمُونَهُ بِرَبِّهِمْ، كَمَا:- حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: " {أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} "، قَالَ: سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا تَكْذِيبٌ مِنَ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ هَؤُلَاءِ اَلْكُفَّارَ اَلْمُنْكِرِينَ اَلْبَعْثَ بَعْدَ اَلْمَمَاتِ فِي قَوْلِهِمْ: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا اَلدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}، [سُورَةُ اَلْمَائِدَةِ: 29]. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، مُكَذِّبًا لَهُمْ فِي قِيلِهِمْ ذَلِكَ: "مَا اَلْحَيَاةُ اَلدُّنْيَا "، أَيُّهَا اَلنَّاس" إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ "، يَقُولُ: مَا بَاغِي لَذَّاتِ اَلْحَيَاةِ اَلَّتِي أَدْنَيْتُ لَكُمْ وَقَرَّبْتُ مِنْكُمْ فِي دَارِكُمْ هَذِهِ، وَنَعِيمَهَا وَسُرُورَهَا فِيهَا، وَالْمُتَلَذِّذُ بِهَا، وَالْمُنَافِسُ عَلَيْهَا، إِلَّا فِي لَعِبٍ وَلَهْوٍ، لِأَنَّهَا عَمَّا قَلِيلٍ تَزُولُ عَنِ اَلْمُسْتَمْتِعِ بِهَا وَالْمُتَلَذِّذِ فِيهَا بِمَلَاذِّهَا، أَوْ تَأْتِيهِ اَلْأَيَّامُ بِفَجَائِعِهَا وَصُرُوفِهَا، فَتُمِرُّ عَلَيْهِ وَتَكْدُرُ، كَاللَّاعِبِ اَللَّاهِي اَلَّذِي يُسْرِعُ اِضْمِحْلَالَ لَهْوِهِ وَلَعِبِهِ عَنْهُ، ثُمَّ يُعْقِبُهُ مِنْهُ نَدَمًا، وَيُورِثُهُ مِنْهُ تَرَحًا. يَقُولُ: لَا تَغْتَرُّوا، أَيُّهَا اَلنَّاسُ بِهَا، فَإِنَّ اَلْمُغْتَرَّ بِهَا عَمَّا قَلِيلٍ يَنْدَمُ " {وَلَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} "، يَقُولُ: وَلَلْعَمَلُ بِطَاعَتِهِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِلدَّارِ اَلْآخِرَةِ بِالصَّالِحِ مِنَ اَلْأَعْمَالِ اَلَّتِي تَبْقَى مَنَافِعُهَا لِأَهْلِهَا، وَيَدُومُ سُرُورُ أَهْلِهَا فِيهَا، خَيْرٌ مِنَ اَلدَّارِ اَلَّتِي تَفْنَى وَشِيكًا، فَلَا يَبْقَى لِعُمَّالِهَا فِيهَا سُرُورٌ، وَلَا يَدُومُ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ "لِلَّذِينِ يَتَّقُونَ "، يَقُولُ: لِلَّذِينِ يَخْشَوْنَ اَللَّهَ فَيَتَّقُونَهُ بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى رِضَاه" أَفَلَا تَعْقِلُونَ "، يَقُولُ: أَفَلَا يَعْقِلُ هَؤُلَاءِ اَلْمُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ حَقِيقَةَ مَا نُخْبِرُهُمْ بِهِ، مِنْ أَنَّ اَلْحَيَاةَ اَلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، وَهُمْ يَرَوْنَ مَنْ يُخْتَرَمُ مِنْهُمْ، وَمَنْ يَهْلَكُ فَيَمُوتُ، وَمَنْ تَنُوبُهُ فِيهَا اَلنَّوَائِبُ وَتُصِيبُهُ اَلْمَصَائِبُ وَتُفْجَعُهُ اَلْفَجَائِعُ. فَفِي ذَلِكَ لِمَنْ عَقَلَ مُدَّكِرٌ وَمُزْدَجَرٌ عَنِ اَلرُّكُونِ إِلَيْهَا، وَاسْتِعْبَادِ اَلنَّفْسِ لَهَا وَدَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنْ لَهَا مُدَبِّرًا وَمُصَرِّفًا يُلْزِمُ اَلْخَلْقَ إِخْلَاصَ اَلْعِبَادَةِ لَهُ، بِغَيْرِ إِشْرَاكِ شَيْءٍ سِوَاهُ مَعَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ اَلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ اَلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اَللَّهِ يَجْحَدُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ نَعْلَم" يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ اَلَّذِي يَقُولُ اَلْمُشْرِكُونَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ لَهُ: إِنَّهُ كَذَّابٌ " {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} ". وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ [فَقَرَأَتْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكُوفَةِ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} بِالتَّخْفِيفِ]، بِمَعْنَى: إِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ فِيمَا أَتَيْتَهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِ اَللَّهِ، وَلَا يَدْفَعُونَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صَحِيحًا، بَلْ يَعْلَمُونَ صِحَّتَهُ، وَلَكِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ حَقِيقَتَهُ قَوْلًا فَلَا يُؤْمِنُونَ بِهِ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ اَلْعِلْمِ بِكَلَامِ اَلْعَرَبِ يَحْكِي عَنِ اَلْعَرَبِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: "أَكَذَّبَتَ اَلرَّجُلَ "، إِذَا أَخْبَرَتَ أَنَّهُ جَاءَ بِالْكَذِبِ وَرَوَاهُ. قَالَ: وَيَقُولُونَ: " كَذَّبْتُهُ "، إِذَا أَخْبَرْتَ أَنَّهُ كَاذِبٌ. وَقَرَأَتْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ قَرَأَةِ اَلْمَدِينَةِ وَالْعِرَاقِيِّينَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ بِمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ عِلْمًا، بَلْ يَعْلَمُونَ أَنَّكَ صَادِقٌ وَلَكِنَّهُمْ يُكَذِّبُونَكَ قَوْلًا عِنَادًا وَحَسَدًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ اَلْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْقَرَأَةِ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي اَلصِّحَّةِ مَخْرَجٌ مَفْهُومٌ. وَذَلِكَ أَنَّ اَلْمُشْرِكِينَ لَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ قَوْمٌ يُكَذِّبُونَ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَدْفَعُونَهُ عَمَّا كَانَ اَللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ خَصَّهُ بِهِ مِنَ اَلنُّبُوَّةِ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: "هُوَ شَاعِرٌ "، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: " هُوَ كَاهِنٌ "، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: " هُوَ مَجْنُونٌ "، وَيَنْفِي جَمِيعُهُمْ أَنْ يَكُونَ اَلَّذِي أَتَاهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِ اَلسَّمَاءِ، وَمِنْ تَنْزِيلِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ، قَوْلًا. وَكَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ تَبَيَّنَ أَمْرَهُ وَعَلِمَ صِحَّةَ نُبُوَّتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يُعَانِدُ وَيَجْحَدُ نُبُوَّتَهُ حَسَدًا لَهُ وَبَغْيًا. فَالْقَارِئُ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} بِمَعْنَى أَنَّ اَلَّذِينَ كَانُوا يَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ نُبُوَّتِكَ وَصِدْقَ قَوْلِكَ فِيمَا تَقُولُ، يَجْحَدُونَ أَنْ يَكُونَ مَا تَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَنْزِيلِ اَللَّهِ وَمِنْ عِنْدِ اَللَّهِ، قَوْلًا- وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ عِلْمًا صَحِيحًا مُصِيبٌ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ. وَفِي قَوْلِ اَللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ اَلسُّورَةِ: {اَلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ اَلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [سُورَةُ اَلْمَائِدَةِ: 20]، أَوْضَحُ اَلدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِمُ اَلْمُعَانِدُ فِي جُحُودِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ عِلْمٍ مِنْهُمْ بِهِ وَبِصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ. وَكَذَلِكَ اَلْقَارِئُ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} بِمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا عِنَادًا، لَا جَهْلًا بِنُبُوَّتِهِ وَصِدْقِ لَهْجَتِهِ مُصِيبٌ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنَ اَلتَّأْوِيلَيْنِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلتَّأْوِيلِ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ اَلْحَقَّ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ بِأَنَّكَ نَبِيٌّ لِلَّهِ صَادَقٌ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، «عَنْ أَبِي صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ: " {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ اَلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} "، قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ جَالِسٌ حَزِينٌ، فَقَالَ لَهُ: مَا يُحْزِنُكَ؟ فَقَالَ: كَذَّبَنِي هَؤُلَاءِ! قَالَ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: إِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ، هُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّكَ صَادِقٌ، " {وَلَكِنَّ اَلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اَللَّهِ يَجْحَدُونَ} "». حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: «جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ حَزِينٌ، فَقَالَ لَهُ: مَا يُحْزِنُكَ؟. فَقَالَ: كَذَّبَنِي هَؤُلَاءِ! فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: إِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ، إِنَّهُمْ لِيَعْلَمُونَ أَنَّكَ صَادِقٌ، " {وَلَكِنَّ اَلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اَللَّهِ يَجْحَدُونَ} "». حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: " {وَلَكِنَّ اَلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اَللَّهِ يَجْحَدُونَ} "، قَالَ: يَعْلَمُونَ أَنَّكَ رَسُولُ اَللَّهِ وَيَجْحَدُونَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ: عَنِ اَلسُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: " {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ اَلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ اَلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اَللَّهِ يَجْحَدُونَ} "، لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ اَلْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ لِبَنِي زُهْرَةَ: يَا بَنِي زُهْرَةَ، إِنْ مُحَمَّدًا اِبْنُ أُخْتِكُمْ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ مَنْ كَفَّ عَنْهُ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ تُقَاتِلُوهُ اَلْيَوْمَ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا كُنْتُمْ أَحَقَّ مَنْ كَفَّ عَنِ اِبْنِ أُخْتِهِ! قِفُوا هَاهُنَا حَتَّى أَلْقَى أَبَا اَلْحَكَمِ فَإِنْ غُلِبَ مُحَمَّدٌ [صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] رَجَعْتُمْ سَالِمِينَ، وَإِنْ غَلَبَ مُحَمَّدٌ فَإِنَّ قَوْمَكُمْ لَا يَصْنَعُونَ بِكُمْ شَيْئًا فَيَوْمَئَذٍ سُمِّيَ "اَلْأَخْنَسُ "، وَكَانَ اِسْمُه" أُبَيٌّ "فَالْتَقَى اَلْأَخْنَسُ وَأَبُو جَهْلٍ، فَخَلَا اَلْأَخْنَسُ بِأَبِي جَهْلٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا اَلْحَكَمِ، أَخْبِرْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ، أُصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ؟ فَإِنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا مِنْ قُرَيْشٍ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُكَ يَسْمَعُ كَلَامَنَا! فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَيْحَكَ، وَاَللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَصَادِقٌ، وَمَا كَذَبَ مُحَمَّدٌ قِطُّ، وَلَكِنْ إِذَا ذَهَبَ بَنُو قُصَيٍّ بِاللِّوَاءِ وَالْحِجَابَةِ وَالسِّقَايَةِ وَالنُّبُوَّةِ، فَمَاذَا يَكُونُ لِسَائِرِ قُرَيْشٍ؟ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: " {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ اَلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اَللَّهِ يَجْحَدُونَ} "، " فَآيَاتُ اَللَّهِ "، مُحَمَّدٌ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنِي اَلْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَلْعَزِيزِ قَالَ حَدَّثَنَا قَيْسٌ، عَنْ سَالِمٍ اَلْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: " {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} "، قَالَ: لَيْسَ يُكَذِّبُونَ مُحَمَّدًا، وَلَكِنَّهُمْ بِآيَاتِ اَللَّهِ يَجْحَدُونَ. ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِمَعْنَى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ، وَلَكِنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ مَا جِئْتَ بِهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ نَاجِيَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا نَتَّهِمُكَ، وَلَكِنْ نَتَّهِمُ اَلَّذِي جِئْتَ بِهِ! فَأَنْزَلَ اَللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ اَلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اَللَّهِ يَجْحَدُونَ} ". حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ: «أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ، وَلَكِنْ نُكَذِّبُ اَلَّذِي جِئْتَ بِهِ! فَأَنْزَلَ اَللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ اَلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اَللَّهِ يَجْحَدُونَ} "». وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ لَا يُبْطِلُونَ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: " {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} "، قَالَ: لَا يُبْطِلُونَ مَا فِي يَدَيْكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {وَلَكِنَّ اَلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اَللَّهِ يَجْحَدُونَ} "، فَإِنَّهُ يَقُولُ: وَلَكِنَّ اَلْمُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ، بِحُجَجِ اَللَّهِ وَآيِ كِتَابِهِ وَرَسُولِهِ يَجْحَدُونَ، فَيُنْكِرُونَ صِحَّةَ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَكَانَ اَلسُّدِّيُ يَقُولُ: "اَلْآيَات" فِي هَذَا اَلْمَوْضِعِ، مَعْنِيٌّ بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا اَلرِّوَايَةَ بِذَلِكَ عَنْهُ قَبْلُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اَللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ اَلْمُرْسَلِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا تَسْلِيَةٌ مِنَ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَعْزِيَةٌ لَهُ عَمَّا نَالَهُ مِنَ اَلْمَسَاءَةِ بِتَكْذِيبِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ عَلَى مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ اَلْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنْ يُكَذِّبْكَ، يَا مُحَمَّدُ، هَؤُلَاءِ اَلْمُشْرِكُونَ مِنْ قَوْمِكَ، فَيَجْحَدُوا نُبُوَّتَكَ، وَيُنْكِرُوا آيَاتِ اَللَّهِ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِهِ، فَلَا يُحْزِنُكَ ذَلِكَ، وَاصْبِرْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ وَمَا تَلْقَى مِنْهُمْ مِنَ اَلْمَكْرُوهِ فِي ذَاتِ اَللَّهِ، حَتَّى يَأْتِيَ نَصْرُ اَللَّهِ، فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ أَرْسَلْتُهُمْ إِلَى أُمَمِهِمْ، فَنَالُوهُمْ بِمَكْرُوهٍ، فَصَبَرُوا عَلَى تَكْذِيبِ قَوْمِهِمْ إِيَّاهُمْ، وَلَمْ يَثْنِهِمْ ذَلِكَ مِنَ اَلْمُضِيِّ لِأَمْرِ اَللَّهِ اَلَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ دُعَاءِ قَوْمِهِمْ إِلَيْهِ، حَتَّى حَكَمَ اَللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ "وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اَللَّهِ "، يَقُولُ: وَلَا مُغَيِّرَ لِكَلِمَاتِ اَللَّهِ وَ" كَلِمَاتُه" تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا أَنْزَلَ اَللَّهُ إِلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَنْ وَعْدِهِ إِيَّاهُ اَلنَّصْرَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ وَضَادَّهُ، وَالظَّفَرَ عَلَى مَنْ تَوَلَّى عَنْهُ وَأَدْبَرَ " {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ اَلْمُرْسَلِينَ} "، يَقُولُ: وَلَقَدْ جَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ، مِنْ خَبَرِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ اَلرُّسُلِ، وَخَبَرِ أُمَمِهِمْ، وَمَا صَنَعْتُ بِهِمْ حِينَ جَحَدُوا آيَاتِي وَتَمَادَوْا فِي غَيِّهِمْ وَضَلَالِهِمْ أَنْبَاءٌ وَتَرَكَ ذِكْرَ "أَنْبَاءٍ "، لِدَلَالَة" مِنْ " عَلَيْهَا. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَانْتَظِرْ أَنْتَ أَيْضًا مِنَ اَلنُّصْرَةِ وَالظَّفَرِ مِثْلَ اَلَّذِي كَانَ مِنِّي فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ اَلرُّسُلِ إِذْ كَذَّبَهُمْ قَوْمُهُمْ، وَاقْتَدِ بِهِمْ فِي صَبْرِهِمْ عَلَى مَا لَقُوا مِنْ قَوْمِهِمْ. وَبِنَحْوِ ذَلِكَ تَأَوَّلَ مَنْ تَأَوَّلَ هَذِهِ اَلْآيَةَ مِنْ أَهْلِ اَلتَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا} "، يُعَزِّي نَبِيَّهُ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَسْمَعُونَ، وَيُخْبِرُهُ أَنَّ اَلرُّسُلَ قَدْ كُذِّبَتْ قَبْلَهُ، فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا، حَتَّى حَكَمَ اَللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ اَلْحَاكِمِينَ. حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ اَلضَّحَّاكِ: " {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} "، قَالَ: يُعَزِّي نَبِيَّهُ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنَا اَلْقَاسِمُ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ: " {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} "، اَلْآيَةَ، قَالَ: يُعَزِّي نَبِيَّهُ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اِسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي اَلْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي اَلسَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنْ كَانَ عَظُمَ عَلَيْكَ، يَا مُحَمَّدُ إِعْرَاضَ هَؤُلَاءِ اَلْمُشْرِكِينَ عَنْكَ، وَانْصِرَافَهُمْ عَنْ تَصْدِيقِكَ فِيمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ اَلْحَقِّ اَلَّذِي بَعَثْتُكَ بِهِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْكَ، وَلَمْ تَصْبِرْ لِمَكْرُوهِ مَا يَنَالُكَ مِنْهُمْ " {فَإِنِ اِسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي اَلْأَرْضِ} "، يَقُولُ: فَإِنِ اِسْتَطَعْتَ أَنْ تَتَّخِذَ سَرَبًا فِي اَلْأَرْضِ مِثْلَ نَافِقَاءِ اَلْيَرْبُوعِ، وَهِيَ إِحْدَى جِحَرَتِهِ فَتَذْهَبُ فِيهِ " {أَوْ سُلَّمًا فِي اَلسَّمَاءِ} "، يَقُولُ: أَوْ مِصْعَدًا تَصْعَدُ فِيهِ، كَالدَّرَجِ وَمَا أَشْبَهَهَا، كَمَا قَالَ اَلشَّاعِرُ: لَا تُحْرِزُ الْمَرْءَ أَحْجَاءُ اَلْبِلَادِ، وَلَا *** يُبْنَى لَهُ فِي السَّمَاوَاتِ السَّلَالِيمُ " {فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} "، مِنْهَا يَعْنِي بِعَلَامَةٍ وَبُرْهَانٍ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِكَ، غَيْرَ اَلَّذِي أَتَيْتُكَ فَافْعَلْ. وَبِنَحْوِ اَلَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اَلتَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اِسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي اَلْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي اَلسَّمَاءِ} "، و" اَلنَّفَقُ "اَلسَّرَبُ، فَتَذْهَبُ فِيه" فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ "، أَوْ تَجْعَلُ لَكَ سُلَّمًا فِي اَلسَّمَاءِ، فَتَصْعَدُ عَلَيْهِ، فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أَفْضَلَ مِمَّا أَتَيْنَاهُمْ بِهِ، فَافْعَلْ. حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: " {فَإِنِ اِسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي اَلْأَرْضِ} "، قَالَ: سَرَبًا " {أَوْ سُلَّمًا فِي اَلسَّمَاءِ} "، قَالَ: يَعْنِي اَلدَّرَجَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ: " {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اِسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي اَلْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي اَلسَّمَاءِ} "، أَمَّا "اَلنَّفَق" فَالسَّرَبُ، وَأَمَّا "اَلسُّلَّم" فَالْمِصْعَدُ. حَدَّثَنَا اَلْقَاسِمُ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ اَلْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {نَفَقًا فِي اَلْأَرْضِ} "، قَالَ: سَرَبًا. وَتُرِكَ جَوَابُ اَلْجَزَاءِ فَلَمْ يُذْكَرْ لِدَلَالَةِ اَلْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَمَعْرِفَةِ اَلسَّامِعِينَ بِمَعْنَاهُ. وَقَدْ تَفْعَلُ اَلْعَرَبُ ذَلِكَ فِيمَا كَانَ يُفْهَمُ مَعْنَاهُ عِنْدَ اَلْمُخَاطِبِينَ بِهِ، فَيَقُولُ اَلرَّجُلُ مِنْهُمْ لِلرَّجُلِ: "إِنِ اِسْتَطَعْتَ أَنْ تَنْهَضَ مَعَنَا فِي حَاجَتِنَا، إِنْ قَدَرْتَ عَلَى مَعُونَتِنَا "، وَيُحْذَفُ اَلْجَوَابُ، وَهُوَ يُرِيدُ: إِنْ قَدَرْتَ عَلَى مَعُونَتِنَا فَافْعَلْ. فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْرِفِ اَلْمُخَاطَبُ وَالسَّامِعُ مَعْنَى اَلْكَلَامِ إِلَّا بِإِظْهَارِ اَلْجَوَابِ، لَمْ يَحْذِفُوهُ. لَا يُقَالُ: " إِنْ تَقُمْ "، فَتَسْكُتُ وَتَحْذِفُ اَلْجَوَابَ، لِأَنَّ اَلْمَقُولَ ذَلِكَ لَهُ لَا يُعْرَفُ جَوَابُهُ إِلَّا بِإِظْهَارِهِ، حَتَّى يُقَالَ: "إِنْ تَقُمْ تُصِبْ خَيْرًا "، أَوْ: " إِنْ تَقُمْ فَحَسَنٌ "، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَنَظِيرُ مَا فِي اَلْآيَةِ مِمَّا حُذِفَ جَوَابُهُ وَهُوَ مُرَادٌ لِفَهْمِ اَلْمُخَاطَبِ لِمَعْنَى اَلْكَلَامِ قَوْلُ اَلشَّاعِرِ: فَبِحَظٍّ مِمَّا نَعِيشُ، وَلَا تَذْ *** هَبْ بِكِ التُّرَّهَاتُ فِي الْأَهْوَالِ وَالْمَعْنَى: فَبِحَظٍّ مِمَّا نَعِيشُ فَعَيْشِي.
اَلْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَوْ شَاءَ اَللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى اَلْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ اَلْجَاهِلِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ اَلَّذِينَ يُكَذِّبُونَكَ مِنْ هَؤُلَاءِ اَلْكُفَّارِ، يَا مُحَمَّدُ، فَيُحْزِنُكَ تَكْذِيبُهُمْ إِيَّاكَ، لَوْ أَشَاءُ أَنْ أَجْمَعَهُمْ عَلَى اِسْتِقَامَةٍ مِنَ اَلدِّينِ، وَصَوَابٍ مِنْ مَحَجَّةِ اَلْإِسْلَامِ، حَتَّى تَكُونَ كَلِمَةُ جَمِيعِكُمْ وَاحِدَةً، وَمِلَّتُكُمْ وَمِلَّتُهُمْ وَاحِدَةً، لَجَمَعْتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ بَعِيدًا عَلَيَّ، لِأَنِّي اَلْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ بِلُطْفِي، وَلَكِنِّي لَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ لِسَابِقِ عِلْمِي فِي خَلْقِي، وَنَافِذِ قَضَائِي فِيهِمْ، مِنْ قَبْلِ أَنْ أَخْلُقَهُمْ وَأُصَوِّرَ أَجْسَامَهُمْ "فَلَا تَكُونُنَّ "، يَا مُحَمَّد" مِنَ اَلْجَاهِلِينَ "، يَقُولُ: فُلًّا تَكُونُنَّ مِمَّنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ اَللَّهَ لَوْ شَاءَ لَجَمَعَ عَلَى اَلْهُدَى جَمِيعَ خَلْقِهِ بِلُطْفِهِ، وَأَنَّ مَنْ يَكْفُرُ بِهِ مِنْ خَلْقِهِ إِنَّمَا يَكْفُرُ بِهِ لِسَابِقِ عِلْمِ اَللَّهِ فِيهِ، وَنَافِذِ قَضَائِهِ بِأَنَّهُ كَائِنٌ مِنَ اَلْكَافِرِينَ بِهِ اِخْتِيَارًا لَا اضْطِِِِِِرَارًا، فَإِنَّكَ إِذَا عَلِمْتَ صِحَّةَ ذَلِكَ، لَمْ يَكْبُرْ عَلَيْكَ إِعْرَاضُ مَنْ أَعْرَضَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ عَمَّا تَدْعُوهُ إِلَيْهِ مِنَ اَلْحَقِّ، وَتَكْذِيبُ مَنْ كَذَّبَكَ مِنْهُمْ. وَبِنَحْوِ اَلَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اَلتَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ: يَقُولُ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ: لَوْ شِئْتُ لَجَمَعْتُهُمْ عَلَى اَلْهُدَى أَجْمَعِينَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَفِي هَذَا اَلْخَبَرِ مِنَ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، اَلدَّلَالَةُ اَلْوَاضِحَةُ عَلَى خَطَإِ مَا قَالَ أَهْلُ اَلتَّفْوِيضِ مِنَ اَلْقَدَرِيَّةِ، اَلْمُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اَللَّهِ لِطَائِفُ لِمَنْ شَاءَ تَوْفِيقَهُ مَنْ خَلْقِهِ، يَلْطُفُ بِهَا لَهُ حَتَّى يَهْتَدِيَ لِلْحَقِّ، فَيَنْقَادَ لَهُ، وَيُنِيبُ إِلَى اَلرَّشَادِ فَيُذْعِنُ بِهِ وَيُؤْثِرُهُ عَلَى اَلضَّلَالِ وَالْكُفْرِ بِاَللَّهِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ اَلْهِدَايَةَ لِجَمِيعِ مَنْ كَفَرَ بِهِ، حَتَّى يَجْتَمِعُوا عَلَى اَلْهُدَى فَعَلَ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ، كَانُوا مُهْتَدِينَ لَا ضُلَّالًا. وَهُمْ لَوْ كَانُوا مُهْتَدِينَ، كَانَ لَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَهُمْ مُهْتَدِينَ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ. وَفِي تَرْكِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنْ يَجْمَعَهُمْ عَلَى اَلْهُدَى، تَرْكٌ مِنْهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ فِي دِينِهِمْ بَعْضَ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ فِيهِ، مِمَّا هُوَ قَادِرٌ عَلَى فِعْلِهِ بِهِمْ، وَقَدْ تَرَكَ فِعْلَهُ بِهِمْ. وَفِي تَرْكِهِ فِعْلُ ذَلِكَ بِهِمْ، أَوْضَحُ اَلدَّلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهِمْ كُلَّ اَلْأَسْبَابِ اَلَّتِي بِهَا يَصِلُونَ إِلَى اَلْهِدَايَةِ، وَيَتَسَبَّبُونَ بِهَا إِلَى اَلْإِيمَانِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ اَلَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اَللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَكْبُرُنَّ عَلَيْكَ إِعْرَاضُ هَؤُلَاءِ اَلْمُعَرَّضِينَ عَنْكَ، وَعَنِ اَلِاسْتِجَابَةِ لِدُعَائِكَ إِذَا دَعَوْتَهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ رَبِّهِمْ وَالْإِقْرَارِ بِنُبُوَّتِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَجِيبُ لِدُعَائِكَ إِلَى مَا تَدْعُوهُ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، إِلَّا اَلَّذِينَ فَتَحَ اَللَّهُ أَسْمَاعَهُمْ لِلْإِصْغَاءِ إِلَى اَلْحَقِّ، وَسَهَّلَ لَهُمُ اِتِّبَاعَ اَلرُّشْدِ، دُونَ مَنْ خَتَمَ اَللَّهُ عَلَى سَمْعِهِ، فَلَا يَفْقَهُ مِنْ دُعَائِكَ إِيَّاهُ إِلَى اَللَّهِ وَإِلَى اِتِّبَاعِ اَلْحَقِّ إِلَّا مَا تَفْقَهُ اَلْأَنْعَامُ مِنْ أَصْوَاتِ رُعَاتِهَا، فَهُمْ كَمَا وَصَفَهُمْ بِهِ اَللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [سُورَةُ اَلْبَقَرَةِ: 171] " {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اَللَّهُ} "، يَقُولُ: وَالْكُفَّارُ يَبْعَثُهُمُ اَللَّهُ مَعَ اَلْمَوْتَى، فَجَعَلَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي عِدَادِ اَلْمَوْتَى اَلَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ صَوْتًا، وَلَا يَعْقِلُونَ دُعَاءً، وَلَا يَفْقَهُونَ قَوْلًا إِذْ كَانُوا لَا يَتَدَبَّرُونَ حُجَجَ اَللَّهِ، وَلَا يَعْتَبِرُونَ آيَاتِهِ، وَلَا يَتَذَكَّرُونَ فَيَنْزَجِرُونَ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَكْذِيبِ رُسُلِ اَللَّهِ وَخِلَافِهِمْ. وَبِنَحْوِ اَلَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ اَلَّذِينَ يَسْمَعُونَ} "، اَلْمُؤْمِنُونَ، لِلذِّكْرِ " وَالْمَوْتَى "، اَلْكُفَّارُ، حِينَ يَبْعَثُهُمُ اَللَّهُ مَعَ اَلْمَوْتَى. حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: " {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ اَلَّذِينَ يَسْمَعُونَ} "، قَالَ: هَذَا مَثَلُ اَلْمُؤْمِنِ، سَمِعَ كِتَابَ اَللَّهِ فَانْتَفَعَ بِهِ وَأَخَذَ بِهِ وَعَقَلَهُ. وَاَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ، وَهَذَا مَثَلُ اَلْكَافِرِ أَصَمُّ أَبْكَمُ، لَا يُبْصِرُ هُدًى وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ. حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ سُفْيَانَ اَلثَّوْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ، عَنِ اَلْحَسَنِ: " {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ اَلَّذِينَ يَسْمَعُونَ} "، اَلْمُؤْمِنُونَ " وَالْمَوْتَى "، قَالَ: اَلْكُفَّارُ. حَدَّثَنِي اِبْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَلرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ اَلْحَسَنَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ اَلَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اَللَّهُ} "، قَالَ: اَلْكُفَّارُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} "، فَإِنَّهُ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ إِلَى اَللَّهِ يَرْجِعُ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ اِسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، وَالْكُفَّارُ اَلَّذِينَ يَحُولُ اَللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنَّ يَفْقَهُوا عَنْكَ شَيْئًا، فَيُثِيبُ هَذَا اَلْمُؤْمِنَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ فِي اَلدُّنْيَا بِمَا وَعَدَ أَهْلَ اَلْإِيمَانِ بِهِ مِنَ اَلثَّوَابِ، وَيُعَاقِبُ هَذَا اَلْكَافِرَ بِمَا أَوْعَدَ أَهْلَ اَلْكُفْرِ بِهِ مِنَ اَلْعِقَابِ، لَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِنْهُمْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اَللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَ هَؤُلَاءِ اَلْعَادِلُونَ بِرَبِّهِمْ، اَلْمُعْرِضُونَ عَنْ آيَاتِهِ: " {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَهٌ مِنْ رَبِّهِ} "، يَقُولُ: قَالُوا: هَلَّا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ؟ كَمَا قَالَ اَلشَّاعِرُ: تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُمْ *** بَنِي ضَوْطَرَى، لَولَا اَلْكَمِيَّ الْمُقَنَّعَا بِمَعْنَى: هَلَّا اَلْكَمِّيَّ. وَ " اَلْآيَةُ "، اَلْعَلَامَةُ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: {مَالِ هَذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي اَلْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [سُورَةُ اَلْفُرْقَانِ: 7، 8]. قَالَ اَللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِقَائِلِي هَذِهِ اَلْمَقَالَةِ لَكَ: " {إِنَّ اَللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} "، يَعْنِي: حُجَّةً عَلَى مَا يُرِيدُونَ وَيَسْأَلُونَ " {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} "، يَقُولُ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ ذَلِكَ فَيَسْأَلُونَكَ آيَةً، لَا يَعْلَمُونَ مَا عَلَيْهِمْ فِي اَلْآيَةِ إِنَّ نَزَّلَهَا مِنَ اَلْبَلَاءِ، وَلَا يَدْرُونَ مَا وَجْهُ تَرْكِ إِنْزَالِ ذَلِكَ عَلَيْكَ، وَلَوْ عَلِمُوا اَلسَّبَبَ اَلَّذِي مِنْ أَجْلِهِ لِمَ أَنْزَلَهَا عَلَيْكَ، لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَسْأَلُوكَهُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي اَلْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ اَلْمُعْرِضِينَ عَنْكَ، اَلْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِ اَللَّهِ: أَيُّهَا اَلْقَوْمُ، لَا تَحْسَبَنَّ اَللَّهَ غَافِلًا عَمَّا تَعْمَلُونَ، أَوْ أَنَّهُ غَيْرُ مُجَازِيكُمْ عَلَى مَا تَكْسِبُونَ! وَكَيْفَ يَغْفُلُ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَوْ يَتْرُكُ مُجَازَاتَكُمْ عَلَيْهَا، وَهُوَ غَيْرُ غَافِلٍ عَنْ عَمَلِ شَيْءٍ دَبَّ عَلَى اَلْأَرْضِ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، وَلَا عَمَلِ طَائِرٍ طَارَ بِجَنَاحَيْهِ فِي اَلْهَوَاءِ، بَلْ جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ أَجْنَاسًا مُجَنَّسَةً وَأَصْنَافًا مُصَنِّفَةً، تَعْرِفُ كَمَا تَعْرِفُونَ، وَتَتَصَرَّفُ فِيمَا سُخِّرَتْ لَهُ كَمَا تَتَصَرَّفُونَ، وَمَحْفُوظٌ عَلَيْهَا مَا عَمِلَتْ مِنْ عَمَلٍ لَهَا وَعَلَيْهَا، وَمُثْبَتٌ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِهَا فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُمِيتُهَا ثُمَّ مُنْشِرُهَا وَمُجَازِيهَا يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ جَزَاءَ أَعْمَالِهَا. يَقُولُ: فَالرَّبُّ اَلَّذِي لَمْ يُضَيِّعْ حِفْظَ أَعْمَالِ اَلْبَهَائِمِ وَالدَّوَابِّ فِي اَلْأَرْضِ، وَالطَّيْرِ فِي اَلْهَوَاءِ، حَتَّى حَفِظَ عَلَيْهَا حَرَكَاتِهَا وَأَفْعَالَهَا، وَأَثْبَتَ ذَلِكَ مِنْهَا فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ، وَحَشَرَهَا ثُمَّ جَازَاهَا عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهَا فِي دَارِ اَلْبَلَاءِ، أَحْرَى أَنْ لَا يُضَيِّعَ أَعْمَالَكُمْ، وَلَا يُفَرِّطَ فِي حِفْظِ أَفْعَالِكُمُ اَلَّتِي تَجْتَرِحُونَهَا، أَيُّهَا اَلنَّاسُ، حَتَّى يَحْشُرَكُمْ فَيُجَازِيَكُمْ عَلَى جَمِيعِهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرًا، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرًّا، إِذْ كَانَ قَدْ خَصَّكُمْ مَنْ نِعَمِهِ، وَبَسَطَ عَلَيْكُمْ مَنْ فَضْلِهِ، مَا لَمْ يَعُمَّ بِهِ غَيْرَكُمْ فِي اَلدُّنْيَا، وَكُنْتُمْ بِشُكْرِهِ أَحَقَّ، وَبِمَعْرِفَةِ وَاجِبِهِ عَلَيْكُمْ أُولَى، لِمَا أَعْطَاكُمْ مِنَ اَلْعَقْلِ اَلَّذِي بِهِ بَيْنَ اَلْأَشْيَاءِ تُمَيِّزُونَ، وَالْفَهْمِ اَلَّذِي لَمْ يُعْطِهِ اَلْبَهَائِمَ وَالطَّيْرَ، اَلَّذِي بِهِ بَيْنَ مَصَالِحِكُمْ وَمُضَارِّكُمْ تُفَرِّقُونَ. وَبِنَحْوِ اَلَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اَلتَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: " {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} "، أَصْنَافٌ مُصَنَّفَةٌ تُعْرَفُ بِأَسْمَائِهَا. حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: " {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} "، يَقُولُ: اَلطَّيْرُ أُمَّةٌ، وَالْإِنْسُ أُمَّةٌ، وَالْجِنُّ أُمَّةٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ قَوْلُهُ: " {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} "، يَقُولُ: إِلَّا خَلْقٌ أَمْثَالُكُمْ. حَدَّثَنَا اَلْقَاسِمُ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: " {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} "، قَالَ: اَلذَّرَّةُ فَمَا فَوْقَهَا مِنْ أَلْوَانٍ مَا خَلَقَ اَللَّهُ مِنَ اَلدَّوَابِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {مَا فَرَّطْنَا فِي اَلْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} "، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: مَا ضَيَّعْنَا إِثْبَاتَ شَيْءٍ مِنْهُ، كَاَلَّذِي:- حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ: " {مَا فَرَّطْنَا فِي اَلْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} "، مَا تَرَكْنَا شَيْئًا إِلَّا قَدْ كَتَبْنَاهُ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا اِبْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ اِبْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {مَا فَرَّطْنَا فِي اَلْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} "، قَالَ: لَمْ نُغْفِلِ اَلْكِتَابَ، مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وَهُوَ فِي اَلْكِتَابِ. وَحَدَّثَنِي بِهِ يُونُسُ مَرَّةً أُخْرَى، قَالَ فِي قَوْلِهِ: " {مَا فَرَّطْنَا فِي اَلْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} "، قَالَ: كُلُّهُمْ مَكْتُوبٌ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} "، فَإِنَّ أَهْلَ اَلتَّأْوِيلِ اِخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى " حَشْرِهِمْ "، اَلَّذِي عَنَاهُ اَللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي هَذَا اَلْمَوْضِعِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: " حَشْرُهَا "، مَوْتُهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ اَلْأَسَدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اَللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ: " {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} "، قَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ: مَوْتُ اَلْبَهَائِمِ حَشْرُهَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ: " {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} "، قَالَ: يَعْنِي بِالْحَشْرِ اَلْمَوْتَ. حَدَّثَنَا عَنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ اَلْفَرَجِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ اَلْفَضْلَ بْنَ خَالِدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ اَلضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: " {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشُرُونَ} "، يَعْنِي بِالْحَشْرِ: اَلْمَوْتَ. وَقَالَ آخَرُونَ: "اَلْحَشْر" فِي هَذَا اَلْمَوْضِعِ، يَعْنِي بِهِ اَلْجَمْعُ لِبَعْثِ اَلسَّاعَةِ وَقِيَامِ اَلْقِيَامَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَلْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ وَحَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ اَلْأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قَوْلِهِ: " {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي اَلْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} "، قَالَ: يَحْشُرُ اَللَّهُ اَلْخَلْقَ كُلَّهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، اَلْبَهَائِمَ وَالدَّوَابَّ وَالطَّيْرَ وَكُلَّ شَيْءٍ، فَيَبْلُغُ مَنْ عَدْلِ اَللَّهِ يَوْمَئِذٍ أَنْ يَأْخُذَ لِلْجَمَّاءِ مِنَ اَلْقَرْنَاءِ، ثُمَّ يَقُولُ: " كَوْنِي تُرَابًا "، فَلِذَلِكَ يَقُولُ اَلْكَافِرُ: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [سُورَةُ اَلنَّبَأِ: 40]. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اَلْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ وَحَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ اَلْأَعْمَشِ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، «عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذِ اِنْتَطَحَتْ عَنْزَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُدْرُونَ فِيمَا اِنْتَطَحَتَا؟ قَالُوا: لَا نَدْرِي! قَالَ: " لَكِنَّ اَللَّهَ يَدْرِي، وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا». حَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا فِطْرُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ مُنْذِرٍ اَلثَّوْرِيِّ، «عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: اِنْتَطَحَتْ شَاتَانِ عِنْدَ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: يَا أَبَا ذَرٍّ، أَتُدْرِي فِيمَ اِنْتَطَحَتَا "؟ قُلْتُ: لَا! قَالًَ: لَكِنَّ اَللَّهَ يَدْرِي وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا! قَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَقَدْ تَرَكْنَا رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُقَلِّبُ طَائِرٌ جَنَاحَيْهِ فِي اَلسَّمَاءِ إِلَّا ذَكَرْنَا مِنْهُ عِلْمًا». قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ اَلْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ أَنَّ كُلَّ دَابَّةٍ وَطَائِرٍ مَحْشُورٌ إِلَيْهِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِذَلِكَ حَشْرُ اَلْقِيَامَةِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ حَشْرُ اَلْمَوْتِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ اَلْحَشْرَانِ جَمِيعًا، وَلَا دَلَالَةَ فِي ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ، وَلَا فِي خَبَرٍ عَنِ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ ذَلِكَ اَلْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: " {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} "، إِذْ كَانَ "اَلْحَشْرُ "، فِي كَلَامِ اَلْعَرَبِ اَلْجَمْعَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [سُورَةُ ص: 19]، يَعْنِي: مَجْمُوعَةً. فَإِذْا كَانَ اَلْجَمْعُ هُو" اَلْحَشْرُ "، وَكَانَ اَللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ جَامِعًا خَلْقَهُ إِلَيْهِ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ، وَجَامِعَهُمْ بِالْمَوْتِ، كَانَ أَصْوَبُ اَلْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُعَمَّ بِمَعْنَى اَلْآيَةِ مَا عَمَّهُ اَللَّهُ بِظَاهِرِهَا وَأَنْ يُقَالَ: كُلُّ دَابَّةٍ وَكُلُّ طَائِرٍ مَحْشُورٌ إِلَى اَللَّهِ بَعْدَ اَلْفَنَاءِ وَبَعْدَ بَعْثِ اَلْقِيَامَةِ، إِذْ كَانَ اَللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدْ عَمَّ بِقَوْلِهِ: " {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} "، وَلَمْ يُخَصَّصْ بِهِ حَشْرًا دُونَ حَشْرٍ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ: " {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} "؟ وَهَلْ يَطِيرُ اَلطَّائِرُ إِلَّا بِجَنَاحَيْهِ؟ فَمَا فِي اَلْخَبَرِ عَنْ طَيَرَانِهِ بِالْجَنَاحَيْنِ مِنَ اَلْفَائِدَةِ؟ قِيلَ: قَدْ قَدَّمْنَا اَلْقَوْلَ فِيمَا مَضَى أَنَّ اَللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنْزَلَ هَذَا اَلْكِتَابَ بِلِسَانِ قَوْمٍ، وَبِلُغَاتِهِمْ وَمَا يَتَعَارَفُونَهُ بَيْنَهُمْ وَيَسْتَعْمِلُونَهُ فِي مَنْطِقِهِمْ خَاطِبَهُمْ. فَإِذْ كَانَ مِنْ كَلَامِهِمْ إِذَا أَرَادُوا اَلْمُبَالَغَةَ فِي اَلْكَلَامِ أَنْ يَقُولُوا: " كَلَّمْتُ فُلَانًا بِفَمِي "، وَ" مَشَيْتُ إِلَيْهِ بِرِجْلِي "، وَ" ضَرَبَتْهُ بِيَدِي "، خَاطَبَهُمْ تَعَالَى بِنَظِيرِ مَا يَتَعَارَفُونَهُ فِي كَلَامِهِمْ، وَيَسْتَعْمِلُونَهُ فِي خِطَابِهِمْ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى} [سُورَةُ ص: 23].
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَاَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي اَلظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اَللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِحُجَجِ اَللَّهِ وَأَعْلَامِهِ وَأَدِلَّتِهِ "صُمٌّ "، عَنْ سَمَاعِ اَلْحَق" بِكُمْ "، عَنِ اَلْقِيلِ بِهِ " فِي اَلظُّلُمَاتِ "، يَعْنِي: فِي ظُلْمَةِ اَلْكُفْرِ حَائِرًا فِيهَا، يَقُولُ: هُوَ مُرْتَطَمٌ فِي ظُلُمَاتِ اَلْكُفْرِ، لَا يُبْصِرُ آيَاتِ اَللَّهِ فَيَعْتَبِرُ بِهَا، وَيَعْلَمُ أَنَّ اَلَّذِي خَلَقَهُ وَأَنْشَأَهُ فَدَبَّرَهُ وَأَحْكَمَ تَدْبِيرَهُ، وَقَدَّرَهُ أَحْسَنَ تَقْدِيرٍ، وَأَعْطَاهُ اَلْقُوَّةَ، وَصَحَّحَ لَهُ آلَةَ جِسْمِهِ لَمْ يَخْلُقْهُ عَبَثًا، وَلَمْ يَتْرُكْهُ سُدًى، وَلَمْ يُعْطِهِ مَا أَعْطَاهُ مِنَ اَلْآلَاتِ إِلَّا لِاسْتِعْمَالِهَا فِي طَاعَتِهِ وَمَا يُرْضِيهِ، دُونَ مَعْصِيَتِهِ وَمَا يُسْخِطُهُ. فَهُوَ لِحَيْرَتِهِ فِي ظُلُمَاتِ اَلْكُفْرِ، وَتَرَدُّدِهِ فِي غَمَرَاتِهَا، غَافِلٌ عَمَّا اَللَّهُ قَدْ أَثْبَتَ لَهُ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ، وَمَا هُوَ بِهِ فَاعِلٌ يَوْمَ يُحْشَرُ إِلَيْهِ مَعَ سَائِرِ اَلْأُمَمِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ اَلْمُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ إِضْلَالَهُ مَنْ خَلْقِهِ عَنِ اَلْإِيمَانِ إِلَى اَلْكُفْرِ، وَالْهَادِي إِلَى اَلصِّرَاطِ اَلْمُسْتَقِيمِ مِنْهُمْ مَنْ أَحَبَّ هِدَايَتَهُ، فَمُوَفِّقُهُ بِفَضْلِهِ وَطَوْلِهِ لِلْإِيمَانِ بِهِ، وَتَرْكِ اَلْكُفْرِ بِهِ وَبِرُسُلِهِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَهْتَدِي مِنْ خَلْقِهِ أَحَدٌ إِلَّا مَنْ سَبَقَ لَهُ فِي أُمِّ اَلْكِتَابِ اَلسَّعَادَةُ، وَلَا يَضِلُّ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا مَنْ سَبَقَ لَهُ فِيهَا اَلشَّقَاءُ، وَأَنَّ بِيَدِهِ اَلْخَيْرَ كُلَّهُ، وَإِلَيْهِ اَلْفَضْلُ كُلُّهُ، لَهُ اَلْخُلُقُ وَالْأَمْرُ. وَبِنَحْوِ اَلَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: " {صُمٌّ وَبُكْمٌ} "، هَذَا مَثَلُ اَلْكَافِرِ، أَصَمُّ أَبْكَمُ، لَا يُبْصِرُ هُدًى، وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ، صَمَّ عَنِ اَلْحَقِّ فِي اَلظُّلُمَاتِ، لَا يَسْتَطِيعُ مِنْهَا خُرُوجًا، مُتَسَكِّعٌ فِيهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اَللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ اَلسَّاعَةُ أَغَيْرَ اَللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اِخْتَلَفَ أَهْلُ اَلْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: " أَرَأَيْتَكُمْ ". فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِّ اَلْبَصْرَةِ: "اَلْكَاف" اَلَّتِي بَعْدَ "اَلتَّاء" مِنْ قَوْلِهِ: "أَرَأَيْتَكُم" إِنَّمَا جَاءَتْ لِلْمُخَاطَبَةِ، وَتُرِكَتِ "اَلتَّاء" مَفْتُوحَةً كَمَا كَانَتْ لِلْوَاحِدِ. قَالَ: وَهِيَ مِثْلُ "كَاف" " رُوَيْدَكَ زَيْدًا "، إِذَا قُلْتَ: أَرُودُ زَيْدًا. هَذِهِ "اَلْكَاف" لَيْسَ لَهَا مَوْضِعٌ مُسَمًّى بِحَرْفٍ، لَا رَفْعَ وَلَا نَصْبَ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي اَلْمُخَاطَبَةِ مِثْلُ كَافِ "ذَاكَ ". وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ اَلْعَرَبِ: " أُبْصِرَكَ زَيْدًا "، يُدْخِلُونَ "اَلْكَاف" لِلْمُخَاطَبَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: مَعْنَى: " {أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ} "، أَرَأَيْتُمْ. قَالَ: وَهَذِهِ "اَلْكَاف" تَدْخُلُ لِلْمُخَاطَبَةِ مَعَ اَلتَّوْكِيدِ، وَ" اَلتَّاءُ "وَحْدَهَا هِيَ اَلِاسْمُ، كَمَا أَدْخَلَت" اَلْكَافَ "اَلَّتِي تُفَرِّقُ بَيْنَ اَلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمِيعِ فِي اَلْمُخَاطَبَةِ، كَقَوْلِهِمْ: " هَذَا، وَذَاكَ، وَتِلْكَ، وَأُولَئِكَ "، فَتَدْخُلُ "اَلْكَاف" لِلْمُخَاطَبَةِ، وَلَيْسَتْ بِاسْمٍ، وَ" اَلتَّاءُ "هُوَ اَلِاسْمُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمِيعِ، تُرِكَتْ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: " لَيْسَكَ ثَمَّ إِلَّا زَيْدٌ "، يُرَادُ: لَيْسَ وَ" لَا سِيَّكَ زَيْدٌ "، فَيُرَادُ: وَلَا سِيَّمَا زَيْدٌ وَ" بَلَاكَ "فَيُرَادُ، " بَلَى "فِي مَعْنَى: " نَعَمْ "وَ" لَبِئْسَكَ رَجُلًا وَلَنِعْمَكَ رَجُلًا ". وَقَالُوا: " انْظُرْكَ زَيْدًا مَا أَصْنَعُ بِهِ "وَ" أُبْصِرُكَ مَا أَصْنَعُ بِهِ "، بِمَعْنَى: أُبْصِرُهُ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ: " أُبْصِرُكُمْ مَا أَصْنَعُ بِهِ "، يُرَادُ: أَبْصَرُوا وَ" انْظُرْكُمْ زَيْدًا "، أَيِ اُنْظُرُوا. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ بَنِي كِلَابٍ: "أَتَعْلَمُكَ كَانَ أَحَدَ أَشْعَرَ مِنْ ذِي اَلرُّمَّةِ؟ " فَأَدْخَلَ " اَلْكَافَ ". وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِّ اَلْكُوفَةِ: "أَرَأَيْتُكَ عَمْرًا" أَكْثَرُ اَلْكَلَامِ فِيهِ تَرْكُ اَلْهَمْزِ. قَالَ: و" اَلْكَافُ "مِن" أَرَأَيْتُكَ "فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، كَأَنَّ اَلْأَصْلَ: أَرَأَيْتَ نَفْسَكَ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ اَلْحَالِ؟ قَالَ: فَهَذَا يُثَنَّى وَيُجْمَعُ وَيُؤَنَّثُ، فَيُقَالُ: " أَرَأَيْتُمَا كَمَا "وَ" أَرَأَيْتُمُوكُمْ ". وَ" وَأَرَأَيْتُنَّكُنَّ "، أَوْقَعَ فِعْلَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَسَأَلَهُ عَنْهَا، ثُمَّ كَثُرَ بِهِ اَلْكَلَامُ حَتَّى تَرَكُوا" اَلتَّاءَ "مُوَحَّدَةً لِلتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ وَالتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ، فَقَالُوا: " أَرَأَيْتُكُمْ زَيْدًا مَا صَنَعَ "، وَ" أَرَأَيْتُكُنَّ مَا صَنَعَ "، فَوَحَّدُوا اَلتَّاءَ وَثَنَّوْا اَلْكَافَ وَجَمَعُوهَا، فَجَعَلُوهَا بَدَلًا مِنَ "اَلتَّاءِ "، كَمَا قَالَ: هَاؤُمُ اِقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [سُورَةُ اَلْحَاقَّةِ: 19]، وَ" هَاءُ يَا رَجُلُ "، وَ" هَاؤُمَا "، ثُمَّ قَالُوا: " هَاكُمُ "، اِكْتَفَى بِالْكَافِ وَالْمِيمِ مِمَّا كَانَ يُثَنَّى وَيُجْمَعُ. فَكَأَنَّ "اَلْكَاف" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، إِذْ كَانَتْ بَدَلًا مِنَ "اَلتَّاءِ ". وَرُبَّمَا وُحِّدَتْ لِلتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ وَالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ، وَهِيَ كَقَوْلِ اَلْقَائِلِ: " عَلَيْكَ زَيْدًا "، "اَلْكَاف" فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ، وَالتَّأْوِيلُ رَفْعٌ. فَأَمَّا مَا يُجْلَبُ فَأَكْثَرَ مَا يَقَعُ عَلَى اَلْأَسْمَاءِ، ثُمَّ تَأْتِي بِالِاسْتِفْهَامِ فَيُقَالُ: "أَرَأَيْتُكَ زَيْدًا هَلْ قَامَ "، لِأَنَّهَا صَارَتْ بِمَعْنَى: أَخْبِرْنِي عَنْ زَيْدٍ، ثُمَّ بَيَّنَ عَمَّا يَسْتَخْبِرُ. فَهَذَا أَكْثَرُ اَلْكَلَامِ. وَلَمْ يَأْتِ اَلِاسْتِفْهَامُ يَلِيهَا. لَمْ يَقُلْ: " أَرَأَيْتُكَ هَلْ قُمْتَ "، لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يُبَيِّنُوا عَمَّنْ يَسْأَلُ، ثُمَّ تُبَيِّنُ اَلْحَالَةَ اَلَّتِي يُسْأَلُ عَنْهَا. وَرُبَّمَا جَاءَ بِالْجَزَاءِ وَلَمْ يَأْتِ بِالِاسْمِ، فَقَالُوا: "أَرَأَيْتَ إِنْ أَتَيْتَ زَيْدًا هَلْ يَأْتِينَا" وَ" أَرَأَيْتُكَ "أَيْضًا وَ" أَرَأَيْتَ زَيْدًا إِنْ أَتَيْتَهُ هَلْ يَأْتِينَا "، إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى: " أَخْبِرْنِي "، فَيُقَالُ بِاللُّغَاتِ اَلثَّلَاثِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَتَأْوِيلُ اَلْكَلَامِ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ اَلْعَادِلِينَ بِاَللَّهِ اَلْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ: أَخْبِرُونِي، إِنْ جَاءَكُمْ أَيُّهَا اَلْقَوْمُ عَذَابُ اَللَّهِ، كَاَلَّذِي جَاءَ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنَ اَلْأُمَمِ اَلَّذِينَ هَلَكَ بَعْضُهُمْ بِالرَّجْفَةِ، وَبَعْضُهُمْ بِالصَّاعِقَةِ أَوْ جَاءَتْكُمُ اَلسَّاعَةُ اَلَّتِي تُنْشَرُونَ فِيهَا مِنْ قُبُورِكُمْ، وَتُبْعَثُونَ لِمَوْقِفِ اَلْقِيَامَةِ، أَغَيْرَ اَللَّهِ هُنَاكَ تَدْعُونَ لِكَشْفِ مَا نَزَلَ بِكُمْ مِنَ اَلْبَلَاءِ، أَوْ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ آلِهَتِكُمْ تَفْزَعُونَ لِيُنْجِيَكُمْ مِمَّا نَزَلَ بِكُمْ مِنْ عَظِيمِ اَلْبَلَاءِ؟ " إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ "، يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ فِي دَعْوَاكُمْ وَزَعْمِكُمْ أَنَّ آلِهَتَكُمُ اَلَّتِي تَدْعُونَهَا مِنْ دُونِ اَللَّهِ تَنْفَعُ أَوْ تَضُرُّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، مُكَذِّبًا لِهَؤُلَاءِ اَلْعَادِلِينَ بِهِ اَلْأَوْثَانَ: مَا أَنْتُمْ، أَيُّهَا اَلْمُشْرِكُونَ بِاَللَّهِ اَلْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ، إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اَللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ اَلسَّاعَةُ، بِمُسْتَجِيرِينَ بِشَيْءٍ غَيْرِ اَللَّهِ فِي حَالِ شِدَّةِ اَلْهَوْلِ اَلنَّازِلِ بِكُمْ مِنْ آلِهَةٍ وَوَثَنٍ وَصَنَمٍ، بَلْ تَدْعُونَ هُنَاكَ رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ، وَبِهِ تَسْتَغِيثُونَ، وَإِلَيْهِ تَفْزَعُونَ، دُونَ كُلِّ شَيْءٍ غَيْرِهِ " {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ} "، يَقُولُ: فَيُفَرِّجُ عَنْكُمْ عِنْدَ اِسْتِغَاثَتِكُمْ بِهِ وَتَضَرُّعِكُمْ إِلَيْهِ، عَظِيمَ اَلْبَلَاءِ اَلنَّازِلِ بِكُمْ إِنْ شَاءَ أَنْ يُفْرِّجَ ذَلِكَ عَنْكُمْ، لِأَنَّهُ اَلْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَمَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ، دُونَ مَا تَدْعُونَهُ إِلَهًا مِنَ اَلْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ " {وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} "، يَقُولُ: وَتَنْسَوْنَ حِينَ يَأْتِيكُمْ عَذَابُ اَللَّهِ أَوْ تَأْتِيكُمُ اَلسَّاعَةُ بِأَهْوَالِهَا، مَا تُشْرِكُونَهُ مَعَ اَللَّهِ فِي عِبَادَتِكُمْ إِيَّاهُ، فَتَجْعَلُونَهُ لَهُ نِدًّا مِنْ وَثَنٍ وَصَنَمٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِهِ وَتَدْعُونَهُ إِلَهًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مُتَوَعِّدًا لِهَؤُلَاءِ اَلْعَادِلِينَ بِهِ اَلْأَصْنَامَ وَمُحَذِّرَهُمْ أَنْ يَسْلُكَ بِهِمْ إِنْ هُمْ تَمَادَوْا فِي ضَلَالِهِمْ سَبِيلَ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنَ اَلْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، فِي تَعْجِيلِ اَللَّهِ عُقُوبَتَهُ لَهُمْ فِي اَلدُّنْيَا وَمُخْبِرًا نَبِيَّهُ عَنْ سُنَّتِهِ فِي اَلَّذِينَ خَلَوْا قَبْلَهُمْ مِنَ اَلْأُمَمِ عَلَى مِنْهَاجِهِمْ فِي تَكْذِيبِ اَلرُّسُلِ: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا "، يَا مُحَمَّدُ، " إِلَى أُمَمٍ "، يَعْنِي: إِلَى جَمَاعَاتٍ وَقُرُونٍ " {مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ} "، يَقُولُ: فَأَمَرْنَاهُمْ وَنَهَيْنَاهُمْ، فَكَذَّبُوا رُسُلنَا، وَخَالَفُوا أَمْرَنَا وَنَهْيَنَا، فَامْتَحَنَّاهُمْ بِالِابْتِلَاءِ "بِالْبَأْسَاءِ "، وَهِيَ شِدَّةُ اَلْفَقْرِ وَالضِّيقِ فِي اَلْمَعِيشَة" وَالضَّرَّاءِ "، وَهِيَ اَلْأَسْقَامُ وَالْعِلَلُ اَلْعَارِضَةُ فِي اَلْأَجْسَامِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ وَوُجُوهِ إِعْرَابِهِ فِي " سُورَةِ اَلْبَقَرَةِ "، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا اَلْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُ: " {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} " يَقُولُ: فَعَلْنَا ذَلِكَ بِهِمْ لِيَتَضَرَّعُوا إِلَيَّ، وَيُخْلِصُوا لِيَ اَلْعِبَادَةَ، وَيُفْرِدُوا رَغْبَتَهُمْ إِلَيَّ دُونَ غَيْرِي، بِالتَّذَلُّلِ مِنْهُمْ لِي بِالطَّاعَةِ، وَالِاسْتِكَانَةِ مِنْهُمْ إِلَيَّ بِالْإِنَابَةِ. وَفِي اَلْكَلَامِ مَحْذُوفٌ قَدِ اُسْتُغْنِيَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الظاهرُ مِنْ إِظْهَارِهِ دُونَ قَوْلِهِ: " {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ} "، وَإِنَّمَا كَانَ سَبَبُ أَخْذِهِ إِيَّاهُمْ، تَكْذِيبَهُمُ اَلرُّسُلَ وَخِلَافَهُمْ أَمْرَهُ لَا إِرْسَالَ اَلرُّسُلِ إِلَيْهِمْ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ مَعْنَى اَلْكَلَامِ: " {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} " رُسُلًا فَكَذَّبُوهُمْ، " {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ} ". وَ "اَلتَّضَرُّعُ ": هُو" اَلتَّفَعُّلُ "مِن" اَلضَّرَاعَةِ "، وَهِيَ اَلذِّلَّةُ وَالِاسْتِكَانَةُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا أَيْضًا مِنَ اَلْكَلَامِ اَلَّذِي فِيهِ مَتْرُوكٌ اُسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ اَلظَّاهِرِ عَنْ ذِكْرِ مَا تُرِكَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَخْبَرَ عَنِ اَلْأُمَمِ اَلَّتِي كَذَّبَتْ رُسُلَهَا أَنَّهُ أَخَذَهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لِيَتَضَرَّعُوا لَهُ، ثُمَّ قَالَ: " {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} "، وَلَمْ يُخْبِرْ عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ اَلْفِعْلِ عِنْدَ أَخْذِهِ إِيَّاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَمَعْنَى اَلْكَلَامِ: " {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} "، فَلَمْ يَتَضَرَّعُوا، " فَلَوْلَا إِذَا جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضْرَعُوا ". وَمَعْنَى: "فَلَوْلَا "، فِي هَذَا اَلْمَوْضِعِ، فَهَلَّا. وَالْعَرَبُ إِذْ أَوْلَت" لَوْلَا "اِسْمًا مَرْفُوعًا، جَعَلَتْ مَا بَعْدَهَا خَبَرًا، وَتَلَقَّتْهَا بِالْأَمْرِ، فَقَالَتْ: " فَلَوْلَا أَخُوكَ لَزُرْتُكَ "وَ" لَوْلَا أَبُوكَ لِضَرَبْتُكَ "، وَإِذَا أَوْلَتْهَا فِعْلًا أَوْ لَمْ تُولِهَا اِسْمًا، جَعَلُوهَا اِسْتِفْهَامًا فَقَالُوا: " لَوْلَا جِئْتَنَا فَنُكْرِمُكَ "، وَ" لَوْلَا زُرْتَ أَخَاكَ فَنَزُورُكَ "، بِمَعْنَى: "هَلَّا "، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {لَوْلَا أَخَّرْتِنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} [سُورَةُ اَلْمُنَافِقُونَ: 10]. وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ بِـ" لَوْمًا "مِثْلَ فِعْلِهَا بِـ" لَوْلَا ". فَتَأْوِيلُ اَلْكَلَامِ إذًا: فَهَلَّا إِذْ جَاءَ بَأْسُنَا هَؤُلَاءِ اَلْأُمَمَ اَلْمُكَذِّبَةَ رُسُلَهَا، اَلَّذِينَ لَمْ يَتَضَرَّعُوا عِنْدَ أَخْذِنَا إِيَّاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ " تَضْرَعُوا "، فَاسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ، وَخَضَعُوا لِطَاعَتِهِ، فَيَصْرِفُ رَبَّهُمْ عَنْهُمْ بَأْسَهُ، وَهُوَ عَذَابُهُ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى "اَلْبَأْس" فِي غَيْرِ هَذَا اَلْمَوْضِعِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا اَلْمَوْضِعِ. " {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} "، يَقُولُ: وَلَكِنْ أَقَامُوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ، وَأَصَرُّوا عَلَى ذَلِكَ، وَاسْتَكْبَرُوا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، اِسْتِهَانَةً بِعِقَابِ اَللَّهِ، وَاسْتِخْفَافًا بِعَذَابِهِ، وَقَسَاوَةِ قَلْبٍ مِنْهُمْ. " {وَزَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "، يَقُولُ: وَحَسَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ اَلْأَعْمَالِ اَلَّتِي يَكْرَهُهَا اَللَّهُ وَيَسْخُطُهَا مِنْهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: " {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} "، فَلِمَا تَرَكُوا اَلْعَمَلَ بِمَا أَمَرْنَاهُمْ بِهِ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِنَا، كَاَلَّذِي:- حَدَّثَنَا اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: " {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} "، يَعْنِي: تَرَكُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ. حَدَّثَنَا اَلْقَاسِمُ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ اِبْنِ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ: " {نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} "، قَالَ: مَا دَعَاهُمُ اَللَّهُ إِلَيْهِ وَرُسُلُهُ، أَبَوْهُ وَرَدُّوهُ عَلَيْهِمْ. " {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} "، يَقُولُ: بَدَّلْنَا مَكَانَ اَلْبَأْسَاءِ اَلرَّخَاءَ وَالسِّعَةَ فِي اَلْعَيْشِ، وَمَكَانَ اَلضَّرَّاءِ اَلصِّحَّةَ وَالسَّلَامَةَ فِي اَلْأَبْدَانِ وَالْأَجْسَامِ، اِسْتِدْرَاجًا مِنَّا لَهُمْ، كَاَلَّذِي:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ حَدَّثَنِي عِيسَى وَحَدَّثَنِي اَلْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: " {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} "، قَالَ: رَخَاءُ اَلدُّنْيَا وَيُسْرُهَا، عَلَى اَلْقُرُونِ اَلْأُولَى. حَدَّثَنَا اَلْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اَلرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: " {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} "، قَالَ: يَعْنِي اَلرَّخَاءَ وَسَعَةَ اَلرِّزْقِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ. عَنِ اَلسُّدِّيِّ قَوْلُهُ: " {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} "، يَقُولُ: مِنَ اَلرِّزْقِ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: " {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} "، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ بَابَ اَلرَّحْمَةِ وَبَابَ اَلتَّوْبَةِ [لَمْ يُفْتَحَا لَهُمْ]، لَمْ تُفْتَحْ لَهُمْ أَبْوَابٌ أُخَرُ غَيْرُهُمَا كَثِيرَةٌ؟ قِيلَ: إِنَّ مَعْنًى ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ اَلْوَجْهِ اَلَّذِي ظَنَنْتَ مِنْ مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ: فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ، اِسْتِدْرَاجًا مِنَّا لَهُمْ، أَبْوَابَ كُلِّ مَا كُنَّا سَدَدْنَا عَلَيْهِمْ بَابَهُ، عِنْدَ أَخْذِنَا إِيَّاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لِيَتَضَرَّعُوا، إِذْ لَمْ يَتَضَرَّعُوا وَتَرَكُوا أَمْرَ اَللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، لِأَنَّ آخِرَ هَذَا اَلْكَلَامِ مَرْدُودٌ عَلَى أَوَّلِهِ. وَذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ اَلسَّيِّئَةِ اَلْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا اَلضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}، [سُورَةُ اَلْأَعْرَافِ: 95]، فَفَتَحَ اَللَّهُ عَلَى اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ ذَكَرَ فِي هَذِهِ اَلْآيَةِ [أَنَّهُمْ نَسُوا مَا] ذَكَّرَهُمْ، بِقَوْلِهِ: " {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} "، هُوَ تَبْدِيلُهُ لَهُمْ مَكَانَ اَلسَّيِّئَةِ اَلَّتِي كَانُوا فِيهَا فِي حَالِ اِمْتِحَانِهِ إِيَّاهُمْ، مِنْ ضِيقِ اَلْعَيْشِ إِلَى اَلرَّخَاءِ وَالسَّعَةِ، وَمِنَ اَلضُّرِّ فِي اَلْأَجْسَامِ إِلَى اَلصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ، وَهُوَ "فَتْحُ أَبْوَابِ كُلِّ شَيْء" كَانَ أُغْلِقَ بَابُهُ عَلَيْهِمْ، مِمَّا جَرَى ذِكْرُهُ قَبْلَ قَوْلِهِ: " {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} "، فَرَدَّ قَوْلَهُ: " {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} "، عَلَيْهِ. وَيَعْنِي تَعَالَى بِقَوْلِهِ: " {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا} "، يَقُولُ: حَتَّى إِذَا فَرِحَ هَؤُلَاءِ اَلْمُكَذِّبُونَ رُسُلَهُمْ بِفَتْحِنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ اَلسَّعَةِ فِي اَلْمَعِيشَةِ، وَالصِّحَّةِ فِي اَلْأَجْسَامِ، كَاَلَّذِي:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ: " {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا} "، مِنَ اَلرِّزْقِ. حَدَّثَنَا اَلْحَارِثُ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اَلرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ يُحَدِّثُ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَقُولُ: رَحِمَ اَللَّهُ رَجُلًا تَلَا هَذِهِ اَلْآيَةَ، ثُمَّ فَكَّرَ فِيهَا مَاذَا أُرِيدَ بِهَا: " {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} ". حَدَّثَنِي اَلْحَارِثُ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْقَاسِمُ قَالَ حَدَّثَنَا اِبْنُ أَبِي رَجَاءٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اَلشِّعْرِ، عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ اَلْمُبَارَكِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ اَلنَّضْرِ اَلْحَارِثِيِّ فِي قَوْلُهُ: " {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} "، قَالَ: أُمْهِلُوا عِشْرِينَ سَنَةً. وَيَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: " {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} "، أَتَيْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَجْأَةً، وَهُمْ غَارُّونَ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ، وَلَا هُوَ بِهِمْ حَالٌّ، كَمَا:- حَدَّثَنَا اَلْقَاسِمُ قَالَ حَدَّثَنَا اَلْحُسَيْنُ قَالَ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ: " {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} "، قَالَ: أَعْجَبَ مَا كَانَتْ إِلَيْهِمْ، وأغَرَّها لَهُمْ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ " {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} "، يَقُولُ: أَخَذَهُمُ اَلْعَذَابُ بَغْتَةً. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} "، قَالَ: فَجْأَةً آمِنِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} "، فَإِنَّهُمْ هَالِكُونَ، مُنْقَطِعَةٌ حُجَجُهُمْ، نَادِمُونَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ، كَاَلَّذِي:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ: " {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} "، قَالَ: فَإِذَا هُمْ مُهْلَكُونَ، مُتَغَيِّرٌ حَالُهُمْ. حَدَّثَنِي اَلْحَارِثُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اَلْعَزِيزِ قَالَ حَدَّثَنَا شَيْخٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} "، قَالَ: اَلِاكْتِئَابُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا اِبْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ اِبْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} "، قَالَ: "اَلْمُبْلِس" اَلَّذِي قَدْ نَزَلَ بِهِ اَلشَّرُّ اَلَّذِي لَا يَدْفَعُهُ. وَالْمُبْلِسُ أَشَدُّ مِنَ اَلْمُسْتَكِينِ، وَقَرَأَ: {فَمَا اِسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}، [سُورَةُ اَلْمُؤْمِنُونَ: 76]. وَكَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ فِيهِ مُعَاتَبَةٌ وَبَقِيَّةٌ. وَقَرَأَ قَوْلَ اَللَّهِ: " {أَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} " " {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} "، حَتَّى بَلَغَ " {وَزَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} "، ثُمَّ جَاءَ أَمْرٌ لَيْسَ فِيهِ بَقِيَّةٌ. وَقَرَأَ: " {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} "، فَجَاءَ أَمْرٌ لَيْسَ فِيهِ بَقِيَّةٌ. وَكَانَ اَلْأَوَّلُ، لَوْ أَنَّهُمْ تَضَرَّعُوا كُشِفَ عَنْهُمْ. حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو اَلسُّكُونِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ اَلْوَلِيدِ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ ضُبَارَةَ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي اَلصَّلْتِ، عَنْ حَرْمَلَةَ أَبِي عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَقَبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَأَيْتَ اَللَّهَ يُعْطِي عَبْدَهُ فِي دُنْيَاهُ، إِنَّمَا هُوَ اِسْتِدْرَاجٌ. ثُمَّ تَلَا هَذِهِ اَلْآيَةَ: " {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} " إِلَى قَوْلِهِ: " {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} "». وَحُدِّثْتُ بِهَذَا اَلْحَدِيثِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ، عَنِ اِبْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: أَنَّ اَلنَّبِيَّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَإِذَا رَأَيْتَ اَللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ يُعْطِي اَلْعِبَادَ مَا يَسْأَلُونَ عَلَى مَعَاصِيهِمْ إِيَّاهُ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ اِسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ لَهُمْ! ثُمَّ تَلَا " {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} "» اَلْآيَةَ. وَأَصْلُ "اَلْإِبْلَاس" فِي كَلَامِ اَلْعَرَبِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ: اَلْحُزْنُ عَلَى اَلشَّيْءِ وَالنَّدَمُ عَلَيْهِ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ: اِنْقِطَاعُ اَلْحُجَّةِ، وَالسُّكُوتُ عِنْدَ اِنْقِطَاعِ اَلْحُجَّةِ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ: اَلْخُشُوعُ وَقَالُوا: هُوَ اَلْمَخْذُولُ اَلْمَتْرُوكُ، وَمِنْهُ قَوْلُ اَلْعَجَّاجِ: يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا؟ *** قَالَ: نَعَمْ! أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا فَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: "وَأَبْلَسَا "، عِنْدَ اَلَّذِينَ زَعَمُوا أَن" اَلْإِبْلَاسَ "، اِنْقِطَاعُ اَلْحُجَّةِ وَالسُّكُوتُ عِنْدَهُ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يُحِرْ جَوَابًا. وَتَأَوَّلَهُ اَلْآخَرُونَ بِمَعْنَى اَلْخُشُوعِ، وَتَرْكِ أَهْلِهِ إِيَّاهُ مُقِيمًا بِمَكَانِهِ. وَالْآخَرُونَ بِمَعْنَى اَلْحُزْنِ وَالنَّدَمِ. يُقَالُ مِنْهُ: "أَبْلَسَ اَلرَّجُلُ إِبْلَاسًا "، وَمِنْهُ قِيلُ: لِإِبْلِيس" إِبْلِيسُ ".
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَقُطِعَ دَابِرُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: " {فَقُطِعَ دَابِرُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا} "، فَاسْتُؤْصِلَ اَلْقَوْمُ اَلَّذِينَ عَتَوَا عَلَى رَبِّهِمْ، وَكُذِّبُوا رُسُلَهُ، وَخَالَفُوا أَمْرَهُ، عَنْ آخِرِهِمْ، فَلَمْ يُتْرَكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا أُهْلِكَ بَغْتَةً إِذْ جَاءَهُمْ عَذَابُ اَللَّهِ. وَبِنَحْوِ اَلَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلتَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ اَلْحُسَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ اَلْمُفَضَّلِ قَالَ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ اَلسُّدِّيِّ: " {فَقُطِعَ دَابِرُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا} "، يَقُولُ: قُطِّعَ أَصْلُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ أَخْبَرَنَا اِبْنُ وَهْبٍ قَالَ قَالَ اِبْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {فَقُطِعَ دَابِرُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا} "، قَالَ: اُسْتُؤْصِلُوا. وَ "دَابِرُ اَلْقَوْمِ "، اَلَّذِي يَدْبُرُهُمْ، وَهُوَ اَلَّذِي يَكُونُ فِي أَدْبَارِهِمْ وَآخِرِهِمْ. يُقَالُ فِي اَلْكَلَامِ: " قَدْ دَبَرَ اَلْقَوْمَ فُلَانٌ يَدْبُرُهُمْ دَبْرًا وَدَبُّورًا "، إِذَا كَانَ آخِرَهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ: فَأُهْلِكُوا بِعَذَابٍ حَصَّ دَابِرَهُمْ *** فَمَا اِسْتَطَاعُوا لَهُ صَرْفًا وَلَا اِنْتَصَرُوا " {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ} "، يَقُولُ: وَالثَّنَاءُ اَلْكَامِلُ وَالشُّكْرُ اَلتَّامُّ " لِلَّهِ رَبِّ اَلْعَالَمِينَ "، عَلَى إِنْعَامِهِ عَلَى رُسُلِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ، بِإِظْهَارِ حُجَجِهِمْ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ مَنْ أَهَّلِ اَلْكُفْرِ، وَتَحْقِيقِ عِدَاتِهِمْ مَا وَعَدُوهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِاَللَّهِ وَتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُ مَنْ نِقَمِ اَللَّهِ وَعَاجِلِ عَذَابِهِ.
|